هندسة النص الشعري
قراءة في مجموعة صيد الامواج لعبد الله طاهر البرزنجي
د.أحمد الظفيري
القصيدة
الشعرية...مغامرة ولعب لغوي يحاول من
خلاله الانسان الوصول الى الابداع بكونه عملا فنيا متكاملا لا يجتر من التجارب
السابقة الا النزر اليسير..وهذا هو المفهوم الاساس للابداع ، ونعلم جيدا ان
القصيدة العربية قد قطعت شوطا كبيرا حتى وصلت الى الصور التي هي عليها الان وربما
ينتظرها الكثير..والقصيدة الكردية قصيدة تتقدم بسرعة لاسيما في العراق اذ يتواصل
الادباء الكرد برفد المشهد الثقافي العراقي بجديدهم الابداعي الذي يوازي النصوص
الابداعية في العالم اجمع والذي تبرز ، غالبا ، فيا جودة البناء حتى لو كانت هذه
النصوص
مترجمة وهو يفقدها رونق الاصل وغاية المعنى.
مترجمة وهو يفقدها رونق الاصل وغاية المعنى.
وقراءتي
لمجموعة الشاعر عبد الله طاهر البرزنجي (صيد الامواج) جعلتني اقف مواجها لتلك
النصوص التي تحاكي القارئ بكثرة ولا تعطي نفسها له بسهولة فعلى المتلقي أن يجد
لنفسه فسحة من التأمل والتأويل لغرض الوصول لاقصى لذة الفهم..فالفراغات النصية
والبناء الهندسي للقصيدة والتقطيع الحرفي ... كله يعطي مساحة الى القارئ للدخول
اكثر في جو القصيدة..بل ويحثه على اقتحام متن القصيدة والبحث بخبايا التأويل بغية
الخروج بمعنى مكتمل وجديد ، ومنذ العتبة الاولى "العنوان" يجد القارئ
نفسه أمام حركة دائمة ودؤوبة فعنوان المجموعة (صيد الامواج) والصيد يدل على الحركة
والمحاولة والامواج هي صيد مستحيل لانها الاخرى في حركة دائمة وهذا مايجعلنا نعتبر
أن "الصيد" هو المعادل للقراءة و"الامواج" هي المعادل للديوان
.
وهذا التنبيه
يمثل التخطيط الاولي لرسم الصورة العنوانية للنص ، فالصورة العنوانية هي كل يحيل
في المتن الى العنوان بشكل مباشر او رمزا او ايحاء أو غير ذلك، وبذلك فان الشاعر
يصنع عنوانه بقصدية ليجد ظلاله في المتن فهذه الظلال هي التي تمنح النص نسبة
فاعليته وحضوره.
وسيواجه
القصائد عند تصفحه لفهرست القصائد قصائد عدة ليس لها عنوان ويرمز الشاعر اليها بنقاط...وانا
اعتبرت هذه الفراغات عامل تشويق دعائي لقراءة القصائد من اجل معرفة ماخلف هذه النقاط،
فالانسان يبحث دوما عن اكتشاف الغريب والمجهول، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان
مضامين هذه القصائد غالبا ماتكون كبيرة مثل قوله :
اصرخ
اصرخ
لا اذن في راس
هذا العالم
ا
ل
ك
بـ
ي
ر
ولدينا جانب
صوري اخر يبدو أكثر نضوجا من حيث استغلال الشاعر للطاقة القصوى للكلمة ، فهو يوحي
ويناسب من خلال رسم الكلمات في قوله :
الجُمل
فئران
تعدو فوق رفوف
رأسي
نجد هنا أن
تشبيه "الجُمل" بالفئران يعطي دلاله مضاعفة من خلال استغلاله لرسم
الكلمة الذي يوحي ايضا الى كلمة (الجَمل) فهنا تكون الدلالة كالاتي


وكذلك نلاحظ
مدى استغلال الشاعر لمخيلة القارئ الصورية فقد وضع لرأسه "رفوف" وهنا
يمهد لصورة اخرى ستأتي لاحقا هي صورة "المكتبة" التي تأتي في القصيدة
بقوله:
الجُمل الجُمل
الجُمل الجُمل
الجُمل الجُمل
التهمت في كل
وجبة
مكتبة
وهذا الترتيب
الصوري والخيالي يشكل داليا حركيا مفاجئا بعد أن كانت الجمل/الفئران تعدو فهي الان
"تلتهم" وهذا تحرك جديد على مستوى الفعل التدريجي في النص.
ويطل الشاعر
في خاتمة القصيدة اطلالة تشكيلية جديدة عبر برقية صورية مختلفة ، تحتشد فيها اللغة
لتلخص مقولة القصيدة في مرحلة شعرية اخيرة يمكن وصفها بأنها مرحلة الكشف:
عيناي كرتان
سوداوان
يعبث بهما
أطفال الكلمة
فالبرقية
الشعرية الاولى تأتي من خلال دلالة الشكل الكروي "كرتان" واللوني
"الاسود" في مستوى نظامي معتدل يحفظ الموازنة الصورية المشهدية ويعترف
بديمومة الحركة واستمراريتها من خلال كلمة
"كرتان"أما اللون الاسود فهو يعمل على استيلاد الرؤية المناقضة لحيويته
في العينين الى ازمته المؤلمة، ومن خلال البرقية الثانية "يعبث" والتي
تعطي دلالة حركية غير متزنة يوضح ماهيتها الشاعر من خلال "أطفال الكلمة"
فيؤطر الصورة الكاملة الحركية التي رسمها في ذهن القارئ.
ويحاول الشاعر
عبر المجموعة أن يستغل مسرح الورقة أقصى استغلال فتأخذ كلماته حريتها في الحركة
الشكلية وتملأ الفراغ بامتياز،من خلال عدد كبير من القصائد التي تتناثر حروفها
خدمة للايقاع البصري في القصيدة فمثلا في قصيدة (شموس تناثرت) يقول الشاعر:
ص
ف
ر
ت
ها
ا
سبحة انفرطت
ح
ب
ا
ت
ها
في قاع الغياب
طفولتي
ط
ف
و
ل
ت
ي
-
طفولتي –
نلاحظ
مدى علاقة التشكيل الهندسي البصري للنص بمتن القصيدة فعتبة العنوان "شموس تناثرت"
تعطي تصورا بهذا البناء المبعثر لذا فان الشاعر يرسم حروف القصيدة ليكمل تلك
الصورة التي تبادرت الى ذهن المتلقي، ثم يناسب مابين اللون والمضمون ان اللون
الاصفر الذي يستخدمه الشاعر هنا ليصف حالة مشتركة بين لون الشمس والمسبحة وهذا
اللون اخذ دوره في حركة الدوال السالبة في معترك الصورة .
ويكون
هذا الانفلات الحرفي حالة من التبعثر الفكري تنعكس على حالة الاسترجاع التي يعيشها
الشاعر من خلال قوله:
في
قاع الغياب
طفولتي
فالغياب
هنا يساوي الطفولة والتي تتلاشى من خلال التكرار الحرفي الذي يرسمه الشاعر، ويعود
ليكرر كلمة "طفولتي" فتتوضح صورة القصيدة التي يكون شكلها كالاتي:
الشمس
= الطفولة
ومابين
هاتين الدلالتين هناك حالة من التبعثر والغياب.
أما
في قصيدة (العدم) فقد كان الشاعر فنانا متكاملا من خلال استغلاله للشكل البصري
واللغوي في تشكيل المعنى في قوله :
امنحني
أسكن
بها
وجع
الحياة
وهذا
التشكيل يملأ الفراغ الذهني للقارئ ويعطي تصورا تشكيليا كاملا للمعنى وبذلك يمكن
التأمل في القصيدة لا القراءة فقط، ويعد هذا التشكيل محاولة لكسر قوالب الرتابة
والتعابير الجاهزة ومواكبة لطبيعة العصر وتطوره التقني.
قصة الولي وأخواتها القصيرات جدا
( نظرة جمالية )
يوسف يوسف
لا تهدف هذه المقالة إلى الحديث عن متن سردي ، وإنما عن طريقة في السرد يسلكها
القاص لتقديم هذا المتن. أي ان غايتها تتمثل بالحديث حول جماليات هذه الطريقة ،
كما يمكن أن تتبلور في القصة القصيرة جدا ، ونموذجها قصص مجموعة ( الولي )(*) لعبد
الله طاهر البرزنجي .
وكما هو معلوم فمن بين اهم مزايا القصة
القصيرة الناجحة ، الابتعاد عن الإخبار والوصف ، والتركيز على الفعل ، الذي يمكننا
من خلاله رؤية نمو الشخصيات وتطور الأحداث ، في اتجاه إنارة الواقع والكشف عن أهم إشكالاته . كل ذلك
في إطار بنية درامية متكاملة ، تماما وعلى غرار ما يحدث في الرواية هي الأخرى ،
باعتبارها متوالية لغوية كذلك، حتى وإن كانت لها قوانينها المختلفة . بيد أن هاتين
الميزتين في حالة القصة القصيرة جدا ، لكي تتحققا ، تحتاجان من الأديب إلى جهد
أكبر في اعتقادنا، أولا بسبب محدودية عدد كلماتها التي على القاص بواسطتها خلق
عالم ذي حجم ووزن ، لا يختلف في تكامله عن ذاك الذي يخلقه كل من كاتبي القصة
القصيرة الأطول نسبيا ، وكاتب الرواية . وبسبب هذا التحدي ، فإن كاتب هذا النمط من
القصة القصيرة ، أمام وجوب ابتكار أجمل الأساليب وأفضلها ، التي بواسطتها يمكنه
التعويض عن قصر هذا الجنس الأدبي المختزل والمكثف ، كما أنه أمام كيفية جعل الفعل
يتحرك بهدف كشف غموض الوجود خلال المدة القصيرة للقصة .
وإذ نتناول هذه القصص لا يغيب عن الذهن أن
كاتبها البرزنجي شاعر كذلك . وهذا يعني بدرجة أقرب إلى القطعية ، نزوعه إلى
استخدام لغة ذات طابع شاعري ، يمكن أن توصف بأنها لغة تكثيف وإيحاء ، تبتعد عما
يمكن ان يخلخل إيقاعها ، أو ما يمكن أن نسميها في نظرية التلقي بالقوة القذفية
لحظة قيامها بمحاورة عيني القارئ ومخيلته. وإلى صواب هذا الحكم النقدي ، فإن القاص
البرزنجي في كلمات الإهداء الذي يمهد من خلاله الطريق كذلك إلى القصص ، يضعنا أمام
البوابة التي يمكننا الدخول منها إلى عالمه القصصي ، لاكتشاف ما فيه من قيم الجمال
، بل إنه وبالتحديد يقترح علينا الدخول
إلى عالمه من بوابة اللغة، التي تعد المفردة أصغر بنياتها ، وفي هذا الإهداء يقول
: إلى الجبال التي ترفع قبعتها للتلال.
فكيف نكتشف قدرة اللغة على الإنارة والكشف ،
وماذا عن طاقتها الجمالية على الرغم من محدودية عدد كلمات هذه القصة أو تلك من قصص
المجموعة ؟ وهنا ينبغي لفت الانتباه إلى أننا لا نتحدث عن عالم ممتلئ بالطلاسم
وبالرموز المغلقة بحيث يصعب على القارئ اقتحامه، وإنما عن بنية فنية يحتاج من يسعى
إلى اقتحام مجاهلها إلى نوع من الدربة التي يكون في مقدور صاحبها إنتاج التفسير
الدلالي للظواهر اللغوية . وإلى كيفية القيام بعملية التفسير على سبيل المثال ،
فإن القاص يستعير من البشر نمطا من السلوك يمكن أن يوصف بالحضاري ، يقوم فيه شخص
ما برفع قبعته عن رأسه ، بهدف تقديم التحية لشخص آخر قبالته ، يعتقد أن له منزلة
هامة توجب عليه رفع القبعة وحتى الانحناء احتراما له ، وهكذا فإن المعادلة في
التعبير الفني تجعل الجبال – الرجال ذوي المنازل العالية ، يرفعون عن رؤوسهم
قبعاتهم لتحية ذوي المنازل الاقل ارتفاعا – التلال . وعلى هذا فإنه بالقدر الذي
يمكن أن تنفتح فيه مخيلة القارئ وهو يبحث عن تفسير دلالي للكلمات المشار إليها على
اعتبار أنها تحمل في بنيتها ظاهرة في التكوين
ينبغي الانتباه إليها ، وتقديم تفسير لها ، فإن البرزنجي يكون قد استخدم
مفردات ذات طابع شاعري ، يحرص من خلالها على مخاطبة مخيلة القارئ ووجدانه , وهذه
المفردات وعلى وفق ما سوف نلاحظه ، ليست من صنف اللغة المباشرة ، ذات الدلالات
المتعارف عليها ، التي من شأنها إضعاف بنية النص ، والحد من تعاليه فوق المألوف
وابتعاده عنه ، وإنما هي من تلك التي يحاول القاص إبعادها حتى عن أصلها المعجمي .
إننا بصدد الحديث عن قصة قصيرة جدا من شروطها
إيصال متنها السردي دونما إضاعة للوقت . قصة تتحرك وتمشي أمام أنظارنا باتجاه
الشكف ، فما الذي يعول عليه القاص البرزنجي في هذه المجموعة – المقاربة الابداعية
إلى الواقع ؟
عند الحديث حول الإيصال وعدم إضاعة الوقت ،
فإن ذلك يعني التوقف أمام الخطاب لمعرفة شؤونه ، ومحاولة تحديد أبرز ملامحه ،
بالاضافة إلى ما سبقت الاشارة إليه من شاعرية اللغة وما فيها من الطاقة التعبيرية
. وفي أغلب قصص المجموعة فإن القاص يميل إلى استخدام الجمل الفعلية ، على اعتبار
أنها تعني الحركة والقيام بعمل ما . أي بفعل له مدى زمني يرتبط به . بمعنى آخر فقد
اختار هذا النوع من الجملة لجعلها العمود الفقاري لأبنية قصصه ، لاعتقاده وهو في
هذا على حق ، بأنها إنما تعني الصيرورة والتحول والمضي السريع باتجاه الانارة
والشكف . وإلى هذا مثلا فإننا نرى الأفعال التالية في قصة " حالة " :
يخرجون ، يجمعون ، يسندون ، يغورون ، تتداعى .. إلخ. وفي قصة "القرار"
نرى : نزع ، وضعها ، قرّب ، تحاشى ، قرأ ،تململ .. إلخ، وهكذا في قصة " شجرة
النسب " نقرأ : رفع يده إلى الخانة الثانية . سحب كتابا وتراجع نحو الكرسي .
وضع ساقا على ساق. قلب الصفحات . فجأة استوقفته الصفحة الأخيرة . ندت منه صيحة (10
).
والغاية من هذا القول بأن الكاتب في قصة
" حالة " يهدف إلى تصوير عذابات الكرد ، لكن في إيحاء وتكثيف ، وبدون
إطالة من شأنها تدمير العمل الفني الذي يقدمه ، وكذا بدون إبطاء ، وحيث أن ما وراء
الجبل الذي يقف أمام رجال القرية ، يحكي قصص هيكلة الموت الكردي الذي يتكرر في كل
الأوقات والأزمنة وفي قسوة بالغة : فجأة تقطع أشجار تداعياتهم إربا إربا . تهدر
أصوات مرعبة . يدنو من منازلهم الصفيحية
حفيف أقدام يميزونه بيسر . موقنون أن الأرض تشاركهم في مقته . يتفرقون على إثرها
كقطيع تحدق به الذئاب . يندسون في غرفهم الآيلة للسقوط . خلال الكوى والثقوب
يدفهون خيوط نظراتهم نحو قمة الجبل ، ويهبطون بها إلى القرية المضببة الغائمة
تقاسيمها . تظل قلوبهم وآذانهم وعيونهم متجولة في تلك البقعة المندرسة (ص6 ).
وفي قصة " القرار هي الأخرى ، يتماهى
القاص في الشاب بطل القصة ، فكيف يتم ذلك ، وما الذي يحدث عندما يكتشف بلادة
العالم الذي يحيط به ؟ وفي كلمات قليلة ، فإن هذه القصة شأن غيرها ، تمتاز بكثافة
الصياغة ، وبقوة الإيحاء ، وعلو قيمتها الرموزية التي تتمثل بالنزوع نحو تحقيق
الانزياح في المعنى من ظاهر إلى آخر يتخفى وراء عبارة أدبية لغوية محددة ، كمثل ما
نكتشف في التالي :
حدق الشاب في وجه الطبيب ، وعاد يعلق بشيء من
التهكم :
-
أي عالم أو حديث تقصد ؟
-
إذن موافق ؟
-
نعم كل الموافقة
-
أقطع لسانك ؟
-
اقطعه
-
والكلمة ، وعالم المحادثة ؟
-
إقطعه يا دكتور . إقطعه ففي عالم أصم سيان بين أن تملك
لسانا أو تفقده (ص8 – 9 ).
وفي " شجرة
النسب " يحكي البرزنجي عن الشرطي الذي يربض في أعماق الناس ، ويبقى يراقبهم
ويهددهم بالسوط والسجن والقتل . بيد أنه لا يستخدم اللغة المباشرة ، وإنما تلك
التي تثير ذهن القارئ ، وتدفعه للتفكير بجدية ، حتى وإن كان النص من ذلك النوع الذي يفضي إلى قارئه ليس فقط بملامح بنائه ،
وإنما بكل ما في متنه السردي . إن البرزنجي وبذكاء واضح يعرف كيف يجعل الفعل الذي
يصفه يكشف غموض الوجود – الواقع الذي تصوره اللقصة . وهو عندما يقول على لسان الأخ
: هذه – يقصد الورقة التي كتبت فوقها شجرة النسب- تشكل خطرا علينا يا أخي ، فإنه يكون
قد قدم الاشارة إلى أنه سوف يحكي عن الكردي ، الذي بسبب الخوف ، يلجأ لإخفاء أصله
. بل إنه وبسبب هذا الخوف أيضا ، يضطر لحرق ورقة شجرة النسب التي كتبها على وفق ما
طلبه منه والده قبل أن يموت ، وعلى غرار ما نرى في القصة هنا . بمعنى آخر فإننا في
هذه القصة أمام شكل من أشكال الخوف النائم في الأعماق ، الذي ربما يستيقظ في أية
لحظة ، فيدفع بطل القصة للقيام بما سبقت الاشارة إليه – حرق شجرة النسب ، تحت
ذريعة أنها في طريقة كتابتها تشبه قوائم التشكيلات الحزبية . يقول القاص على لسان
أحد الأخوين : أخشى أن يداهمونا الليلة ، ونقع في كارثة . إنهم على اهبة الاستعداد
على الدوام . ألا تذكر فرهاد المسكين ؟ لقد تسبب إنجيل – الكتاب المقدس – في قطع
أصابعة (ص11 ) .
ونحن هنا نميل إلى الاعتقاد بأن ما يعنيه
البرزنجي بشجرة النسب ربما يكون خلاف الظاهر ، وأنها إنما تعني التشكيلات الحزبية
السرية ، وان ما يقوم به الأخ ، إنما يعكس حالة الانهيار التي وصل إليها بسبب
الخوف . وإذا صخّ هذا فإن القاص يكون قد عبّر عن تلقائية ندر العثور على ما
يماثلها في الكثير مما نقرأه هنا وهناك . والأمر المدهش الذي يثير الارتياح ، أنه
يقودنا بدون ان نشعر ، إلى نهاية التألق الذي تمتاز به القصة ( جاء بصندوق القمامة
ورمى الورقة لتتلقفها ألسنة اللهب (ص11 ).
وعلى الرغم من أن عدد كلمات قصة "
الرائحة " لا يصل إلى المائة ، إلا ان القاص في حدود هذا العدد يقدم عالما ذا
حجم ووزن . وتدور القصة حول ولد جائع مسحوق يبيع حبوب عباد الشمس ( مرّ الطفل ذو
الثوب الرث أمام مطعم راق . كان رجل بطين يمرر أصابعه على قطعة لحم ويضعها في
صندوق مشبك)(ص12 ) يضعه القاص أمام واحدة من حالات استلابه كإنسان ( أنزل الطفل
صينيته المليئة بحبات عباد الشمس . اندفعت رائحة اللحم إلى أنفه فراح يزدرد لعابه
)(ص12 ) . إننا ومن أجل توضيح صدق التواصل العيمق مع القصة وساها من قصص المجموعة
، وهو ما تشترطه الرغبة بالقيام بتحليل لغوي للنص ، نقول بأن الحدث الأساسي في
القصة إنما يظهر من خلال توالي الدوال : طفل ذو ثوب رث ، مطعم راقي، رجل بطين يشوي
اللحم ، صينية مليئة بحبات عباد الشمس يحملها الطفل على رأسه ، رائحة اللحم التي
تندفع إلى أنف الطفل وازدراده لعابه ، فحمة سوداء يلقيها البطين على وجه الطفل
فترسم نقطة سوداء ، الطفل وإطالة النظر إلى يد الرجل البطين لكن من الجهة المقابلة
.
ومما قاله الناقد ( فرانك كرمود ) بأن الناس
مثل الشعراء ، يندفعون إلى الأعماق عندما يولدون ، وهم كذلك وسط الأحاجي يموتون .
ونحن بهذا الاستشهاد إنما نقصد الاشارة إلى ذلك النزوع العميق الذي يسيطر على
القاص والذي يتمثل بالاندفاع إلى الأعماق ، وحيث يكون في مقدور السرد القصصي أن
يعطي معنى نبيلا للحياة – حياة شخصيات القصص ، وللشعر- خطاب السرد . إن ما تقع عليه
عيوننا يعكس همومنا . ودوما فإن البرزنجي في قصصه يحترم إحساسنا بالواقع . وبالقدر
تفسه فإنه يعمل بمثابرة على خلق أشكال ممتعة تفيدنا في ترويض حواسنا ، ووضعها في
الطريق الصحيح لنتذوق التناغم بين مختلف عناصر الجمال في قصص المجموعة . وبتعبير
آخر فإن سؤال شيرين في قصة " التباس " حول الجن ( أبي أين ينام الجن ؟
هل يملكون الدبابات ؟ أيحملون البندقية ؟ هل يخطفون الصبيا ؟) إنما هو سؤال حول
العسكر الذين يهددون حياة الكرد ويقتلونهم . ومثل هذا وفي إيقاع متسارع ، وفي
تكثيف شديد ، يحكي القاص عن الشهداء الذين لم يموتوا ، ويعاودون الظهور لمحاكمة
الجلادين الذين قتلوهم في سابق الأيام ( نحن أبرياء . كنتم تلاحقوننا . والآن
منحنا الله ما لم يمنحه لأحد . نخرج من حفرتنا نزور البيوت . نصادق الطيبين )(ص17
).
ولماذا الناس كما يبدون في الكتب يؤثرون في
النفس كما يقول مارسيل بروست أكثر من الناس في الحياة الواقعية ؟ إن أية إجابة
يمكن الوصول إليها لتكون مقنعة ، لا بدّ أن تأتي من العقل والاحساس معا ، وليس من
أحدهما لوحده ، وبغير ذلك فإنها ستبقى إجابة باهتة ولا قدرة لها على الاقناع .
وإلى الاجابة الدقيقة ، فإن الشخصيات القصصية كما يقول بروست نفسه ، قادرة على أن
تكتسب واقعا أشد كثافة من واقع الناس الحقيقيين، أما لماذا ، فلأنها أصبحت جزءا
منا تدور في دواخلنا كقراء. وغاية القصد أن البرزنجي يقدم شخصيات أشبه ما تكون
بالشيفرات شديدة التركيز والقدرة على ملامسة عقولنا وأحاسيسنا . لذا فإن القول
بوجود فارق كبير بين قراءة قصص " ملاذ " و" صوت في الليل "
و" صراحة "و " الزهو " و" عدالة " وبين القدرة على
تحسس عذابات أبطالها . إذ بدون امتلاك هذه القدرة ، وفقدان خاصية التحسس ، فإن
القصة ستفقد قيمتها المرجوة . سوف نقرأ قصة " ملاذ" ولكن الأهم اكتشافنا
العلاقة الجدلية بين الحبيبة – الوطن – المرأة المعشوقة ، التي هي ملاذ القاص،
التي تحاصرها الوحوش التي تحاول افتراسها وسحق بكارتها . أيضا سوف نقرأ " صوت
في الليل " لكن الأهم تحسسنا عذابات المرأة الكردية التي تقضي الليل وهي تخيط
الملابس ، قبل أن يداهم العسكر منزلها في
إحدى الليالي لاعتقالها بحجة البحث عن زوجها .
إن اختلاف نوع التحسس إزاء ما في باطن القصة
، هو ما يجعل قارئا يختلف عن قارئ آخر ، وناقدا عن ناقد آخر سواه . وهنا فإننا لا
نميل إلى قراءة قصص المجموعة بمعزل عن النظر إلى خاصيتين : خاصية الشاعرية وما
فيها من إيحاء وتكثيف ورموزية وطاقات سحرية ، وخاصية التماهي في الواقع الكردي
وعدم مفارقته ، وهي التي تجعلنا أمام متون كردية خالصة . وبصراحة نقول بأن هذه
القصص إن هي إلا أفلاك تدور في فضاء كردي ولا تفارقه بتاتا . ومن هنا فقد أصاب
القاص كبد الحقيقة عندما وضع عبارة ( قصص كردية قصيرة جدا ) على الغلاف . إن حياة
بعيدة الغور خفية لرجل كردي ، أو لامرأة كردية ، أو حتى لطفل كردي ، هي ما تجذب
القاص البرزنجي إليها . ومن هنا يأتي القول بغمكانية الحديث عن تأثر القاص ببيئته
ووفائه لها .
في قصة " الزهو " تتكرر الخطيئة ،
بيد أن من يرتكبها هنا هو الشاعر نفسه . وكما هو معروف فقد تمثلت خطيئة آدم التي
هي الخطيئة الاولى في تاريخ البشر ، بشعوره بالزهو لحظة اكتشافه ما تسميها
الأسطورة شجرة الخلود . آنذاك كانت العقوبة بالطرد من الجنة ، والنزول إلى مكان
سفلي – الأرض، المكان الذي سيرتكب فيه
البشر الآخرون خطاياهم اللاحقة . ولم يكن عبثا إطلاق تسمية الزهو على هذه القصة
التي بطلها شاعر ، يحس بالزهو عند اكتمال القصيدة التي كان يكتبها
( حين انتهى
من وضع آخر نقطة على الحرف الأخير شعر بزهو كبير )(ص31 ). أما لماذا الزهو من نوع
الخطايا ، فلذلك مكان آخر سوى هذه المقالة ، وتتمثل العقوبة هنا ليس بالطرد إلى
مكان آخر ، فالأرض التي يعيش الشاعر فيها
، هي مكان ارتكاب كل ما سبق ذكره ، وإنما بعدم العثور على من يقبل الاستماع إليه (
لم يجد في البيت أحدا يتلو له القصيدة ). وهذه القصة سريعة الجريان ، ولا تدع
القارئ يلتقط أنفاسه ولو للحظة واحدة ، وذلك بسبب جملها الفعلية المتعاقبة : (
انتعل حذاءا .. بدون أن يصلح هندامه هرع نحو الزقاق . قرر أن يقرأ القصيدة لمن
يلتقيه . نادى على رجل مسن فلم يجد أذنا صاغية . أجال بصره . فسقطت نظراته على شلة
من الأطفال كانوا يلعبون تحت شلال المطر النازل من السماء . توقف بينهم : اسكتوا
.. اسكتوا ، سأقرأ لكم شعرا )(ص31 ).
نحن هنا بصدد الاشارة إلى قصة كتبت في شفافية
ورموزية عاليتين . قصة باذخة الجودة ، يقف التعبير فيها عند حافة الشعر ، إن لم
نقل بأنها من نوع الشعر المنثور. قصة حول عدم جدوى الكتابة ، في وسط واقع يدفع
الشاعر إلى الاحساس باليأس والاحباط ، وإن كنا نختلف معه في بلورة الأسباب على هذا
النحو من الاشارة إلى الجوع المستشري الذي يحرم الناس من سماع الشعر . وعلى أية
حال فإن البرزنجي الذي يدرك أن الكتابة القصصية ممارسة نصية وأيديولوجية ، وأن
للأدب نظريته السوسيولوجية ، يلح على إيصال رسالته ، حتى وإن كان من سيستمع إليه
طائر واقف فوق شجرة ( نبهته سقسقة عصفور رآه يتأمل على غصن متمايل . اغتنم الفرصة
وراح يردد على مسامعه ما تبقى من الأسطر )(ص33 ).
أخيرا من هو الولي الذي يكتب البرزنجي عنه ؟
يقول واصفا حالة بطله ( كانت آثار النوم بادية عليه . قام بصعوبة . بدأ يذرع
الغرفة جيئة وذهابا . فكر في ما جرى في النوم . قارن بين وجوه الرجال القبيحة وبين
وجوه الأولياء )(37 ). وبمعزل عن تفسير الأم لحلم ابنها وهو التفسير الذي لا نتفق
معه ، ونعده تفسيرا ساذجا في مثل الحالة التي يكتب البرزنجي عنها ، فإن الولي هو
نفسه الجلاد المقدس ، كلاهما : الولي والجلاد حاز على لقب الولاية والقداسة
باستخدام الدين ذريعة ، وهي الولاية المقدسة التي تخفي قبحها تحت أقنعة مزيفة من
أقنعة الطهر الكاذبة ، كمثل تلك التي يضعها الأولياء فوق وجوههم. وهذا الأمر لا
يصرح القاص به ، أي أنه لا يقوله في عبارات يستخدم فيها لغة التعبير المباشر ،
وإنما هو قد تخفى وراء الحلم ليقول ما يظنه صحيحا حول شخصية الولي ، الذي لا بدّ
أن يشير إليه السرد بطريقة مواربة ( سقطت نظراته على رهط من رجال الشرطة . كان
يتقدمهم شرطي بدين . على حين غرّة استغاث صوته بأمه : ذاك هو ، رجل الحلم هو بعينه
)(ص38 ). هذا يعني أن القاص يريد تحطيم كل الأوثان المقدسة ، بما فيها أوثان الفكر
القاصرة على مماحكة الواقع واكتشاف حقائقه .
================================
(*) عبد الله
طاهر البرزنجي / الولي (قصص كردية قصيرة
جدا )/ منشورات مجلة كه لاويزي نوى /
السليمانية
2008 .