مقالات

المقالات التي كتبتها :

النهيبة في المجتمع الكردي

عبدالله طاهر البرزنجي*

من الكتب النادرة التي صدرت حول ظاهرة النهيبة في واقع المجتمع الكردي وحياة المرأة الكردية، هو كتاب الكاتب والأرشيفي الجاد بوار نورالدين الذي يحمل عنوان (النهيبة في المجتمع الكردي) إذ اعتمد في طروحاته وتوجهاته على مصادر كردية وعربية وفارسية هامة. ما زاد من أهمية الكتاب هو تعويله على جداول ومقابلات ميدانية حية مع عدد من الكُتاب ، وأشخاص لديهم خبرات ومعلومات اجتماعية عميقة حول ظاهرة النهيبة.
يتألف الكتاب من مقدمة بقلم الكاتب شيرزاد حسن وستة فصول.
في البداية يشير الكاتب الى أهمية البحث والمعوقات التي تبرز أثناء انهماك الدارسين في دراسات تستهدف البنية التقليدية السائدة للأسرة في المجتمعات الاسلامية والشرقية، منها المجتمع الكردي الذي يتعسر عليه للآن أن يُسهل الامور أمام الباحث كي يتناول بحرية تامة مواضيع اجتماعية عويصة مثل ظاهرة نهب وخطف النساء، ويشكل الدين عائقاَ آخر أمام سعي الباحث، كما تشكل السلطات بقوانينها والحدود المرسومة التي فرضت على الباحثين عدم اختراقها ، جانبا آخر من الصعوبات.
لاتزال الأسرة في شعوب المنطقة تحافظ على بنيتها التقليدية الصارمة التي ترفع من منزلة الرجل وتقلل من شأن المرأة، فتضعها في منزلة أدنى، ما يؤدي الى حصول الرجل على امتيازات هامة تحرم منها المرأة، فالعادات والتقاليد الدينية والاجتماعية والإدارية أيضاَ تدعم هذه الهيكلة وتغذيها، لذا سادت وهيمنت الى أن نالت منها شيئاَ فشيئاَ عوامل التقدم والرقي الفكري والأداري الحديث وتحسن الحالة الاقتصادية فاشتدت الحاجة لإعادة النظر في الحد من سطوة تلك الصرامة الاجتماعية.
يستمد مفهوم الزواج في المجتمع الكردي أسسه من الدين والبنى الاجتماعية التي تحدد خطوطاَ عامة يسير عليها أفراد المجتمع، إلا ان البعض وخاصة في بعض المناطق الكردية لا يسايرون تلك الأسس ، بخاصة عندما لا يستجيب بعض الآباء لرغبة بناتهم، فتسد أمام الفتى والفتاة كافة السبل الشرعية والقانونية، فيضطران الى الهرب بعد تحديد موعد لذلك، فيختفيان لمدة ويغيبان عن الأنظار، وفي معظم الأحيان يلجأ كلاهما الى مكان آمن عند رئيس عشيرة أو شيخ من رجال الدين ليتوسط لهما لدى والد الفتاة ويرأب لهما الصدع.
إن هذه الظاهرة كانت توجد في البيئة العربية والتركية أيضاَ، خصوصاَ في الأزمنة الغابرة.
فاذا كان البعض يعتبر هذه الظاهرة القديمة خروجاً على الإطار الاجتماعي فان هناك من يعتبرها ويسجلها نوعا من تمرد المرأة النهيبة على سلطة الأب ، وجرأتها على كسر قيود الصمت ورفض الخضوع والاستسلام.
يذكر الكاتب تقاليد الزواج وأنواعه لدى الكرد ويركز على عيوب الضروب غير السليمة التي تلحق أكبر الضرر بحياة الفتاة ونزوعها نحو الحرية لاختيار شريكها وفتى أحلامها، منها مثلاَ زواج الشغّار وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته، على أن يزوج الآخر ابنته أو أخته، ليس بينهما مهر ويعزى سبب اطلاق الشغّار على هذا النوع من الزواج الى خلوه من المهر، وهو زواج تعود جذوره الى المجتمع الجاهلي وشاع بعد انتشار الاسلام بين الشعوب المسلمة، وعلى الرغم من تحريمه في الاسلام، الا انه لايزال مألوفاَ في بعض المناطق النائية بعيداَ عن سلطة القوانين المدنية. ويُعتقد ان العامل الاقتصادي والمالي هو الذي يكمن بالدرجة الأساسية وراء اللجوء الى زواج الشغّار، فالفقر والفاقة تدفع الرجال الى تبادل الأخت أو الأبنة كسلعة تجارية، اضافة الى تدني أو غياب الوعي لدى الذكور، علماَ ان هذه الاساليب المتبعة المتخلفة من التقاليد تغيب في المدن والمناطق الحضرية بسبب الرقي وانتشار الوعي بين المواطنين.
هناك نقص واضح في الدراسات التي تناولت مسألة النهيبة اثناء الوقوف على الجانب اللغوي لها، اذ لا يميز كُتابها بين عدة مفردات لغوية لها علاقة وطيدة وقريبة بمفردة النهيبة، فيضعون النهب والسلب والخطف في خانة واحدة بدون النظر الى الدلالات المختلفة لها. نقول: نهيبة، مخطوفة، منهوبة ومستلبة هي كلمات ذات هيئة وأشكال مختلفة، الا انها تتقارب مع بعض الإختلاف على مستوى الدلالات، وتتضمن نوعاَ من القهر والأرادة المستلبة والتسلط، ولكن هناك فوارق كثيرة بين المرأة المنهوبة أو النهيبة التي تعني من تتفق مع شاب لأختيار الهرب طريقا لحل مشكلتهما بعد ان تسد بوجههما كافة السبل الشرعية والقانونية، وبين من تُختطف عنوة من قبل رجل جائر أو آغا متسلط وقاس دون ابداء رغبة من قبل الفتاة.
هذه المفردات كلها تتضمن معنى من الهرب والخطف، لكن التي تعنينا (هرب الفتاة مع الفتى) تحمل ضرباَ من التآلف والتوافق والتحبب والرغبة الثنائية الصادرة من الطرفين كليهما.
صحيح ان هذه العملية ناجمة من سطوة الرجال وقساوة المجتمع البطرياركي ازاء المرأة الا انها إرادة نقية ومواجهة واضحة وعامل قوة وحراك اجتماعي لنفي مظاهر الأستبداد.
لقد أحسن الكاتب صنعاَ حين أفرد صفحات عدة للتفسير اللغوي لكلمة النهيبة (ره دوو) وكلمات أخرى ذات معان مماثلة.
تعني (ره دوو) في اللغة الكردية الفتاة التي تتبع الرجل وتلحق به، أي انها تختار الفتى وتشاطره الهرب بمحض ارادتها، وهنا وحسب هذا التفسير لا يكون الرجل جائراَ وتخلو العملية من كل أنواع الأفعال القسرية، بعكس الانواع الأخرى التي تحمل معنى الأكراه والعنف والقوة.
أغنى مؤلف الكتاب بوار نورالدين جهده بمراجعة أهم الكتب والدراسات التي تناولت ظاهرة النهيبة واستعرض تعاريف كتابها، ليناقشهم واحداَ واحداَ بدون أن يغيب عن ذهنه إسم احد ممن كتبوا في هذا المجال، بغية استعراض طروحاتهم وتصحيح ما كان بحاجة الى التصحيح واستحضار ما فاتهم ، كما دعمه بتوثيق عشرات الأغاني والحكايات الفلكلورية الشائعة في تاريخ الكرد تناقلتها الألسن وهي تصور عذاب وشوق الشباب والشابات أثناء التنائي والبعاد والعلل الجائرة التي تؤدي الى التشرد وعدم الوصال. بجانب الأغاني والحكايات المنشورة ،هناك أمثال كثيرة سعى الباحث لجمعها معتقداَ انها تبين وتدعم موضوع البحث وتخلو على الاغلب من صوت الأنثى، وأغلب الظن ان أفكار و أصوات الذكور تهيمن عليها، الا انها تدل على الواقع البائس لمن تتفق مع حبيبها على عدم الخضوع لأرادة الأب أو الأخ بعد ان تنفد كافة الحلول.
1- لاتكوني زوجة للآغا، بل اقترني براع أبيّ حر.
2- لو كنت وسيمة وذات طلعة بهية لكنت نهيبة.
في المثل الأول خطاب موجه من امراة أو فتاة الى أخرى تشجعها لتجنب الرجال الأثرياء كيلا تنخدع بأموالهم ومنزلتهم الاجتماعية الرفيعة، فهي سراب وقيود وأغلال، بل ان الحياة الحرة السعيدة يوفرها راع فقير هائم وراء الطبيعة ويُقدر على أحسن وجه جمال المرأة وحسها الفائق.
وأحياناَ كان الناس يعيرون المرأة في بعض المناطق بالمثل الثاني متوخين وجهين مختلفين له، الأول ايجابي لأن القصد من استعماله هو تعظيم جمال المرأة النهيبة وشجاعتها، فهي قادرة على اختراق ونفي المسكوت عنه، أما الوجه الثاني فهو سلبي، بخاصة عندما يوجه الى امراة أو فتاة لا تملك شيئاَ كافياَ من الجمال تجتذب به قلوب الرجال. وفي كل الأحوال يثبت المثل اعتراف المجتمع ضمنياَ بقيمة المرأة النهيبة رغم تمردها على الأعراف الاجتماعية.
وعلى الرغم من ازدراء المجتمع هذه الظاهرة الاجتماعية لكونها تخالف الأعراف وتجلب الكوارث والعداء والتباعد بين العشائر والجماعات المعنية، فان هذا المثل الشائع وأمثال أخرى مماثلة تؤكد جدوى هذا الضرب من التمرد بخاصة حين يطلب الشاب أكثر من مرة حسب الاصول الدينية والأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة يد الفتاة فيرفضها الوالد.
أما قولنا فيختلف حول قيام رجل بخطف امراة متزوجة لها بيتها ورجلها وأولادها، يُكرهها رجل ثري ويخدعها بكلماته المعسولة فتهجر عشها الآمن ورجلها وأطفالها الصغار.
مقتطفات من مقابلات أجراها المؤلف ميدانياَ حول الموضوع :
- لماذا اخترت الهرب مع حبيبتك؟
• كنت أحبها كثيراَ، طلبت يدها رفضني اهلها.
- كم مرة طلبت يدها؟
• أكثر من مرة، قالوا نحن نختار زواج الشغّار فرفضت أن أعيد الكرّة فاتفقنا على الهرب. كانت تحبني، لا يمكن ان يتم ذلك بالإكراه.
- كيف انجزت العملية؟
• أوان الغروب لقيتها، قلت لها ان والدك يرفضني لابد من ترك العلاقة، قالت لا يمكن ان تهجرني، سنبقى معاَ في الحياة والموت، حينذاك قلت ما دمت مصرة لا أتخلى عنك، سنذهب ونتركهم.
- متى وكيف قمتما بذلك؟
• عام 1986 حوالي السابعة مساء.
- من أين والى أين انطلقتما؟
• من مجمع (به سته سين) قصدنا ناحية (سنكسه ر) مشياَ على الاقدام.
- الى اين ذهبت بها، أقصد الى أي منزل أو بيت آويتما؟
• لجأنا الى بيت (حاجي ئاغا) فهو من نبلاء المنطقة.
- هل استشرت به قبل ذلك؟
• نعم، فقال لنتدخل ونطلب يدها لك، قلت لا داعي لذلك. وبقيت المسألة معلقة لمدة ثلاث سنوات لم نتصالح خلال تلك الفترة.
- ألم يسع حاجي آغا لحل المشكلة عن طريق التصالح؟
• وكيف لا؟ غير انهم لم يستجيبوا لذلك. وفيما بعد جاء أهلي وقالوا لابد من التصالح وألا فان المسالة تبقى عالقة وستكون لها عواقب وخيمة.
- متى عقدت القران؟
• عندما ذهبت الى بيت حاجي آغا، تم ذلك هناك.
- يعني اذا لم تكن النهيبة أمرأة متزوجة يمكنهما عقد القران على الفور، أما اذا خُطفَت امراة متزوجة فلا يمكن أن يتم عقد القران الا بعد تسوية المشكلة وحلها عبر اللجوء الى التصالح.
- كم طال بقاؤكما في بيت حاجي اغا؟
• مدة ثلاث سنوات، ثم عدنا الى الأهل.
- بأي طريقة تم التصالح؟
• طلبوا منا ثلاث فتيات. قالوا: اثنتان مقابل فتاتنا المخطوفة، والثالثة مقابل قيام ابنكما بمس كرامتنا وسمعتنا بسوء.
- هل عقدوا القران على الفور؟
• نعم.
- هل كن صغيرات؟
• نعم، كلهن، كن صغيرات نائمات في المهود.
- هل تم ذلك عن طريق الملا؟
• ومن سيكون غيره. الآن انهن شابات وكبيرات في السن، طلبت من أهل زوجتي ان يبادروا الى اخذهن او يطلقوا الثلاثة، لكنهم لا يتحركون، أشعر بالذنب ازاءهن. انا مستعد لتحريرهن عن طريق المال، لكنهم يطلبون مبلغاَ ضخماَ يصعب عليّ دفعه.
- وماذا عن أنواع اخرى من الخطف؟
• قبل سنتين خطف شاب فتاة جاء بها الى بيت أبي، لكن الفتاة المسكينة شنقت نفسها...!
- ربما لم تكن نهيبة بل مختطفة؟
• في كل الأحوال يمنع لدينا ذلك، فاذا اقدم شخص على ذلك سينتزعون منه الفتاة بالقوة، عندما تخطف لدينا فتاة، يبحث عنها أهلها، يسألون، ويستنطقونها ليعرفوا هل تم ذلك بمحض ارادتها أم تم بالقوة والإكراه. اذا كان ذلك باختيارها سيدعونها وشأنها واذا تبين انها اجبرت ولَم يتم بارادتها وميلها الى الرجل فيسارعون الى أخذ فتاتهم.
- وهل يقتلون الفتاة بعد ذلك؟
• كلا، لان الفتى أجبرها بدون موافقتها ورأيها.
وأخيراَ، لابد أن أسجل التقدير المتميز لجهد الكاتب بوار نورالدين الذي عُرف باخلاصه لعمله ومثابرته وجرأته في تناول موضوع حساس واجراء مقابلات حية مع المعنيين بالموضوع تحدثوا فيها بصدق ووضوح.علما انه أشبع هذا الموضوع الحساس بمقالات ودراسات أخرى ،وانتقد في كتاب خاص اطروحة أكاديمية لأستاذ جامعي حول الموضوع المذكور.

الجوائز التي نالها الكاتب بوار نورالدين:
1- جائزة أفضل كتاب لعام 2004 (في المجال الفني) من وزارة الثقافة عن كتابه (الصوت الانثوي في الأغنية الفلكلورية الكردية).
2- الميدالية الذهبية في احتفالية ذكرى خمسين عاماً على وفاة الملك الشيخ محمود الحفيد سنة 2006.
3- جائزة تقديرية من وزارة الثقافة باقليم كردستان العراق سنة 2016 (ككاتب نموذجي).

4- جائزة الأكاديمية الكردية 2016، كمعد لأوسع بيبلوغرافيا للكتب الكردية.




                                           إعداد المعجم



عبدالله طاهر البرزنجي
                                      
                                       -1-
يكاد تشكيل المعجم في الكتب الادبية  يصبح تقليداً شائعاً عند الادباء ,ما ان تتصفح كتاباً في مضمار الشعر او القصة او الترجمة حتى تجد الكاتب يلجأ في نهاية الكتاب الى تخصيص صفحات عدة لمعجم يضم المفردات الصعبة الواردة في النصوص .
                                      -2-
هناك نصوص ادبية قديمة تعج بمفردات مغلقة وغريبة يمتد عمرها الى مئات أو الآف السنين  وبحكم ايغالها في القدم يحسن بنا جمعها في الهامش لنضع شرحاً وافياً لمعانيها ..ولكن أن نأتي في أواخر القرن العشرين نبحث من هنا وهناك عن اقدم المفردات و أصعبها ,ونستخدمها في مادة ادبية ثم نستعين بوضع الشرح لها في معجم ...اعتقد ان شيئاً كهذا ليس محبباً ومفيداً للأديب والقاريء معاً ,يبدو لي ان بعض الادباء يظن ان البحث عن المفردات الغريبة والمهجورة  ووضعها  في الادب هو الابداع والتفرد في اللغة ,ولقد سمعت من اصدقائي الأدباء أكثر من مرة قولهم :هذه الكلمة مثلاً استخدمناها نحن للمرة الاولى في القصيدة الفلانية،  اذن هي من ابتكارنا و استنتاجاتنا ,انهم ينسون ان لغة الاديب ليست القيام باستخراج كلمة غريبة و ترصيعها في القصيدة ,ليصبح صاحب لغة جديدة ومتميزة ,بهذه الطريقة لايغدو الاديب صاحب لغة حديثة وثرية ذات نكهة خاصة .
ليس الثراء في اللغة استحضار الكلمات الثقيلة في النصوص الادبية. لاشك في انهم معجبون اعجاباً تاماً بالمظهر الخارجي البراق للفظة الغريبة دون أن يفكروا في جوهر الكلمة ,وهل يكون لها تأثير على تنسيق اللغة الشعرية وابعادها عن الخلل والاضطراب ؟أو يريد بعض الشعراء أن يكون أدبه غامضاً معتماً فيميل من جراء ذلك الى تصفيف المفردات العويصة ظنا منه ان الشعر الغامض ينتجه تلاحم الالفاظ الثقيلة .
انظر الى شعر نزار، لغة بسيطة عميقة مرصعة بمفردات واضحة ,يستطيع قباني بلا أدنى جهد أن يستعين بالمعجم  أو النصوص الجاهلية  والأموية ليستخرج منها أصعب الكلمات كي يضعها في شعره  ,ولكنه لا يفعل ذلك لأسباب منها ان خصوصية اللغة الشعرية لأي شاعر لا تتأتى من مفردات القواميس الجاهزة ,ثانياً ان طبيعة القصيدة المعاصرة هي التي تتحكم في تحديد المفردة ثم ان ورود الالفاظ الخاصة بالقصيدة الجاهلية و الاموية و الاندلسية في الشعر المعاصر يعد عيباً يسجل على الشاعر لأنه لا يتلاءم وذوق القاريء المعاصر .
                                        -3-
ان ظاهرة اعداد المعجم تنسحب على الترجمة ايضاً ,لقد قرأنا كثيراً من اشعار ناظم حكمت و نزار باللغة الكردية ,جلي ان لغة هذين الشاعرين تتحلى بالسهولة و البساطة الآسرة غير ان الترجمة الكردية لها تزخر بالألفاظ المهجورة والثقيلة, ونتيجة لذلك يلوذ المترجم بوضع القاموس لها في خاتمة الكتاب ,هذه النقطة تقودنا الى العيوب والاشكالات البارزة في حركة الترجمة الكردية ,بعبارة ادق :هناك ادب سهل مكتوب بلغة صعبة  ونتيجة لذلك يضطرب فضاء النص المترجم .
                                  -4-

باختصار يحق لجامع الفلكلور ومحقق النصوص القديمة ان يستنجدا بالقاموس و اعداد المعجم في خاتمة مقالة  أو كتاب  لدفع اللبس والابهام, هذه خطوة سليمة تجنب القاريء التعب والبحث عن المصادر  وأصناف المعاجم اللغوية القديمة .لكن قيام الأديب المعاصر باستخدام مفردات غريبة في ادبه يجعلني أتخيل خطته على الشكل التالي:عندما ينصرف الى كتابة قصة أو قصيدة يستعين قبل الشروع في انجاز التجربة بمفردات المعاجم اللغوية  ويختار منها ما يشاء دون أن يدع الموضوع ينتخب المفردات التي يتطلبها جو التجربة ,هذه ليست سوى ملاحظات عابرة تمهد لنا الدرب للولوج الى تطبيقات دقيقة وواضحة في مقالنا القادم.









الكرد في السينما التركية
                           


عبدالله طاهر البرزنجي

رغم فرض القيود المتنوعة على السينما التركية  ومنع إنتاج  و عرض الأفلام  التي تتناول الحياة الاجتماعية و الاقتصادية  والسياسية  للمجتمع الكردي في تركيا    إلا ان بعض  المخرجين يحطمون تلك القيود  ويتوغلون  في قلب  وقعر المآسي و الويلات  والمشاكل التي خلقت  في التأريخ للشعب الكردي  لتجعله أسير  قضايا سوداء تتكرر و تعيق مسيرته الثقافية  والاجتماعية  .
في السينما التركية مخرجون و ممثلون  ومصورون  ينحدرون من أصول  كردية و منهم من يتكلم باللغة الكردية و يفتخر باصالته  وأرومته ، و قدم نتاجات هامة بالتركية . المثال  الساطع في هذا المجال  هو المخرج  الكردي الراحل ( يلماز کوناي )  الذي كان في افلامه كردياً حتى النخاع ، بل يمكننا اعتباره  واحداً من الذين كرسوا  حياتهم و فنهم و أدبهم  لعرض واقع الانسان الكردي  وحقيقته المستورة .
نحن لا نتطرق في هذا المقال الى أفلام فنان مثل يلماز کوناي بل نعرج على ثلاثة افلام تركية  أخرجها  ومثل الدور فيها  فنانون ومخرجون  أتراك ، بمعنى آخر يهمنا هنا  تعاطف  من تعاطف مع الكرد  وسلط الضوء  على حياته الاجتماعية  ومشاكله  الاقتصادية  و تخلفه  وإهمال موطنه من قبل المؤسسات  الحكومية. إن مخرجاً تركياً مثل علي اوزكن  ترك يطرح قضايا الكرد  من خلال التأكيد على البعد الاجتماعي  والتخلف و التفاوت بين المدينة والقرى الكردية التي تخنقها  يد الاهمال . على العكس من بعض السينمائيين الأتراك الذين يتناولون  هموم الكرد عبر تسليط الضوء على الثورة  والكفاح المسلح و مشاهد ة الوغى  وجريان الدماء .
في فلمه (الحصان) الذي كتب السيناريو له ( ايشيل اوزكن ترك ) نجد رجلاً قروياً يسافر مع ابنه فرهاد الى استمبول  كي يضمن له ولافراد  عائلته حياة مناسبة من خلال إيجاد عمل ما . في المدينة تواجههما صعوبات مختلفة فيسكنان  مؤقتاً لدى باعة متجولين ، لكن أحدهم  يموت على اثر المرض فيحجز رجال الشرطة  عربة الميت ، غير ان الرجل القروي ( والد فرهاد ) يشتبك  معهم بغيه انتزاع العربة من بين أيديهم ، ما ان يهم  بذلك حتى  يتلقى ضربة  تهوي على رأسه فيموت  نتيجة اصابته الحادة . يتجمع الباعة المتجولون  و يتشاورون فيما بينهم لاستئجار سيارة كي تحمل نعش القروي  الى قريته ، وينتهي مصير فرهاد بالعودة بتلك السيارة إلى مكانه الأصلي .
 يبدو ان الوضع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي لتركيا بشكل عام ومناطق كردستان بشكل خاص يقف وراء اختيار مضمون هذا الفلم . صنف النقاد  هذا الفلم و وضعوه في خانة  أفلام الواقعية  الجديدة . وعقد بعضهم مقارنة بين هذا الفلم والفلم  الايطالي الموسوم ب"سارق الدراجة". يمكننا تحديد بعض سمات الواقعية الجديدة باختصار في عدة نقاط أهمها : يلاحظ في أفلام  الواقعية الجديدة أن المحيط الاجتماعي مضطرب و مثقل بالشجار والصراع و التفاوت ، وفي الأعم الأغلب تجري هذه المشاهد المريرة والمحزنة  في أماكن واقعية من قبل ممثلين غير محترفين . في هذه البيئات التي يسودها  العنف لايرى أثر للمحبة و العدالة و الأخلاق. وليس غريباً و الحالة هذه أن يعد بعض الكتاب أفلام الواقعية الجديدة ضرباً من الفن اليساري الذي يؤكد على الفاقة والصراع الطبقي  والاجتماعي .
من بين أفلام الواقعية الجديدة اشتهر عملان هامان أحدهما هو ( سارق الدراجة ) لفيتور وديسكا  والثاني هو فلم ( روما في الساعة العاشرة ) لجوزية دسانتيس ، تناولا مشكلة البطالة في المدن.
 من ناحية الثيمة ثمة وجوه مشتركة بين هذين الفلمين وفلم الحصان  ل ( علي اوزكن ترك ) ، لقد أراد علي أن يخلق مشهداً من البؤس والتعاسة و العطالة  مستندا في ذلك إلى انتقاد  الواقع الاجتماعي . الشخصية الأصلية لفلمه إنسان ينشد العدالة ،  منقطع عن المجتمع  تواجهه ظروف قاسية ، يحلم بتحقيق أمنياته الصغيرة ، تمرده الفردي لا يجدي نفعاً في الواقع . نلمس هنا مثل اغلب أفلام الواقعية  الجديدة اعتراضاً بسيطاً ، لا بد أن نتذكر ان بعضاً من الوجوه  الجديدة في أفلام الواقعية  الجديدة تطرق الى معالم و آفاق  جديدة و واسعة في الأعمال الأخيرة . ويشير احد المخرجين الذين ولعوا  بتلك الثيمات الى ضرورة التخلي عن "الاعتراض ، او رفض بسيط" .
 ان ما يقرب فلم الحصان الى الفلم الموسوم ب ( سارق الدراجة ) هو العزلة الأجتماعية ، لا ريب في أن ثيمة فلم الحصان ليست نموذجاً لهموم أكراد تركيا فقط بل انها  تمثل التعسف الأجتماعي و التفاوت و القساوة  في بلدان  العالم الثالث  كافة . في هذا الفلم يمزج ( على اوزكن ترك )  الواقعية والمخيل على غرار ماجاء  في بعض أفلامه . إذا تم  ذلك بعيداً عن مخاطر  الشعارات فان الفن يبقى بهيا و متوهجاً ، أحياناً يحدث العكس في فلم الحصان . في بعض الأحيان تخرق الاستعارة الفضاء الواقعي للفلم  وفي تلك الحالة  يفرز الخرق تأثيراً فنياً بهياً . يبدأ الفلم بمشهد  واقعي ، ثم تظهر أشكال استعارية عن طريق عرض مراسيم الرقص  واللعب باحصنة خشبية .في مكان آخر يتعمد المخرج إجراء  قتل البائع  المتجول وسط  رقص وفرح زملائه كمحاولة لمباغتة المشاهد وإخضاعه لتأثير المفاجأة ، ويرتبط ذلك بمدى استجابة  المشاهد لها ، ويتزامن  معها قيام الرجل القروي باخراج الطائر من القفض واعطائه الحرية والفضاء المفتوح ، هذه الوجوه الرمزية لا تلحق أي ضرر بالنحو الطبيعي للفلم ، ماعدا إشارات المرأة المضطربة المرعوبة  حين تُرى في شوارع المدينة  وهي تحتضن صرة وتبحث عن ولدها . في نهاية الفلم يوفق  علي لإضاءة مشاهد النهاية وإيجاد التوازن  في بلاغة التصوير ، خاصة حين يأتي بالرجل وابنه  في نعش  على حصان وسط الشارع ، وهذه إيماءة  سينمائية لخيبة أملهما  وانطفاء أحلامهما.
أردن كيرال مخرج تركي آخر يحاول أن يبعد السينما عن براثن  الطموح التجاري لتكتسب توهجات جمالية ، فهو ممن  يعتنون عبر حس جمالي إنساني هادىء بالواقع التركي غير ان التمرد والرفض يتجليان  في ذلك الهدوء ، ظاهر فلمه هادىء والمشاهدات السينمائية التي يستنتجها القارىء أشياء آخرى ، من هنا احس كفنان صادق بمهمته و أوصل الكاميرا الى اقصى مناطق كردستان ليصور  في هكاري مشاهد فلمه الشهير ( فصل في هكاري ) الذي سبر فيه غور واقع الانسان الكردي في تلك المنطقة.
في مرحلة من مراحل الرواية التركية كان النقاد يطلقون تسمية رواية  القرية على بعض الروايات التركية وتسمية رواية المدينة على بعضها الآخر ، كان السبب يعزى إلى رؤى الروائيين ، على سبيل المثال يتشكل  معظم فضاءات  ومواضيع الكاتب الشهير يشار كمال من عالم القرى  والأرياف . هذا القول  لا يعني  تخلي يشار كمال  بشكل نهائي  عن المدينة و التطور الحضاري ، لقد انعكست  هذه الحالة بدورها  في السينما  التركية خصوصاً في الأفلام التي تنقل من القصص والروايات .
يلقي فيلم"فصل في هكاري" الضوء على النقاط المظلمة والمناطق النائية من كردستان ، من خلال تسليط الضوء  على منطقة هكاري الكردية  ويتطرق المخرج إلى الفوارق بين المدينة والقرية ، الهجرة الى المدينة ,الفاقة والبؤس .
هذه الثيمات تتكرر في بعض الروايات  والافلام التركية ، وردت في فلم الحصان لعلي أوزكن  ترك وفي أعمال المخرج الكردي الراحل ( يلماز كوناي ) خاصة في فلمه الموسوم ب ( القطيع ) الذي يتناول هجرة عائلة إلى المدينة بغية بيع أغنامها .
يتجه فلم ( فصل في هكاري ) نحو هذه المشكلة من باب آخر ، من الجدير بالذكر أن الفلم معد من رواية تركية للكاتب التركي فريد ادكو  الذي ابعد ه النظام بهدف المعاقبة  وإذاقته مرارة  المنفى الى قرية من قرى هكاري النائية ، تتحدث روايته  أيضاً عن حياته كمعلم ، و يتناول  فيها مأساة الكرد . قضى فريد ادكو سنوات طويلة في تلك القرى بين فقراء الكرد دون أن ينال منه العذاب  والكلل .
يركز فلم( فصل في هكاري ) على التعود التدريجي لفريد وتحمله  ما يعانيه الكرد فيبذل قصاري جهده لمحو الأمية  وتعليم الاطفال .
في بداية الفلم نجد الشخصية البارزة ( أي المعلم ) يدخل القرية في هدوء يشوبه الخوف والدهشة ، يحاول المخرج  أن يصور قلق  وخوف المعلم بدقة ... فتلعب الموسيقى دوراً متميزاً لإظهار  تلك الحالة المرعبة ,أثناء  ذلك نسمع  صوت المطرقة  وصدى إيقاع السندان ، أو صوتاً شبيها بصوت  المطرقة ، يظهر لنا إيقاع المطرقة وهي تتهاوي  وتتصاعد  وخطوات المعلم أعماقه المضطربة ، وارتعابه من شيء مجهول متعلق بأعماق  وتأريخ  المنطقة ، يخيل إليه انه هابط من كوكب آخر . البطل يحس بالاغتراب ، يحسب ان المنطقة  هامش من هوامش الوطن ، يثير الاغتراب و الإهمال المتعمد ضد المنطقة حفيظته ، وينمي في أعماقه روحية الرفض والتمرد ، يومياً يحتك المعلم بأهل القرية خاصة  مع التلاميذ  والمهرب المشهور في القرية ، يشاطرهم أفراحهم  وأتراحهم ، لذا يبجله القرويون  ويكنون له الاحترام  ويبغون التقليل من غربته واغترابه .
يلاحظ   المتابع والفاحص قلة دور الصوت في هذا الفلم . الحوار يتضاءل ،معروف لدى الجميع ان للصمت لغته الخاصة في النصوص  الأدبية والسينمائية  وحتى المسرحية ، الصمت لغة خاصة تحيلنا إلى لغة أخرى ، على المشاهد والقارىء استنطاقه.
في هذا الفلم ( فصل من هكاري ) مساحات كبيرة من الصمت ، فسحت قلة دور الصوت والحوار المجال لظهورها وبروزها .
المشاهد أغلبها صامت , غير ان صمتها ملىء بالحركة والصراخ  المتدفق من أعماق تأريخ القرية ، لذا تتحول الملامح والنظرات  وحركات اليدين  وايقاع القدمين والموسيقى  وصوت الآلات إلى علامات تعين الناقد السيمولوجي على قراءة  وتحليل مناطق ومساحات الصمت في الفلم.
إن انتقاء الصمت ليحل محل الصوت ويتغلب عليه في هذا الفيلم منسجم ومتناغم  مع الصمت و الإهمال المخيمين على قرى منطقة هكاري ، بعبارة أخرى ربما استقى المخرج سيادة الصمت كميزة فنية سينمائية في هذا الفيلم  من الصمت الذي يسود القرية الكردية .
أردن كيرال  مخرج صادق  مع الفن  والسينما  والبسطاء ، والفن السينمائي لديه يحمل  واجبات  ميمونة ، وللحفاظ  على قدسية الفن  السينمائي لم يسمح للمخرجين  الذين يخصصون معظم أوقاتهم  لانجاز المشاريع السينمائية التجارية  أن يلعبوا الدور في الفلم  بل أسند الدور إلى ممثلي المسرح والقرويين أيضا ً.   فإذا كان  أردن كيرال  وعلى أوزكن ترك يعرضان عمق ألألم الكردي من خلال  التخلف  والصراع الطبقي  والفقر  والتفاوت بين القرية  والمدينة فان مخرجاً آخر مثل( ريس جليك ) ينتقي زاوية نظر آخرى لينفذ الى آلآم  وحقائق الانسان الكردي ، والزاوية المعينة هي الاشتباكات المسلحة والمواجهات السافرة بين الثوار الأكراد  وقوات   الجيش التركي . إن انتاج الافلام التي تتناول القضية من خلال  المواجهات وعمليات القتال  نادر جداً في السينما التركية .
( لكي لاينطفيء الضوء ) فلم هام للمخرج البارع ( ريس جليك ) وهو طويل جداً  وفيه تعرض  اشتباكات  دامية جداً بين مجموعة من الثوار الأكراد  وقوة عسكرية مدججة  بشتي أنواع الأسلحة  . يتعرض الطرفان لانهيار ثلجي هائل يودي بحياة الثوار  والجنود . ففي الفلم  يبقى رئيس الثوار وقائد القوة العسكرية على قيد الحياة  بعدئذ تلتقي بهما  زوجة أحد الثوار  وتتلقى حتفها في الطريق .
بسبب الطبيعة القاسية  تزول الأحقاد بين الثلاثة  وتخلو قلوبهم من الشوائب . وينسون العداء بل يعتبرون الثلج والجوع ، والطبيعة بشكل عام من الأعداء الرئيسة  لهم ، لذا نجد تزايد التعاطف بينهما . يلاحظ مشاهد الفلم ان الحوار ينشأ  بين الثائر  والعسكري قبل أن يصلا القرية ، أي أن الطبيعة القاسية هي التي فرضت عليهما التقارب  ولم تفرق  بين الكردي والتركي .
رويداً رويداً يلجأ الاثنان  إلى الحوار . يبرز في  الفلم مشهد يقتل فيه مسلح كردي تابع للحكومة يتلوه مشهد يتضمن  قرية مهدمة . في مشهد آخر نلمس  صداقة حميمة بين الثائر الكردي  والعسكري التركي ، في نهاية الفلم ينبري  لهما قروى كردي  مسن  ويجردهما من السلاح ، وكأنه يود أن يلوم الشخصين الحيين الباقيين . شاهد 40 الف مشاهد عرض هذا الفيلم ، من بينهم وزراء  و رؤساء بعض الأحزاب في تركيا .
يبدو ان النزعة التجارية و سيادة  الحس الهوليودي في السينما التركية  لاتقدران على أيقاف التيار السينمائي الذي يدعو إلى الجمع  بين تبيان الحقائق والجماليات  الفنية المتوهجة . الأفلام الثلاثة التي سلطنا الضوء عليها غيض من الفيض في هذا المجال .


اعتمدنا في كتابة هذا الموضوع  على المصادر التالية
1-    مجلة نقد فيلم الفارسية .
2-    جريدة الجمهورية 1985 مع المخرج التركي علي أوزكن تورك، ترجمة عبدالله طاهر البرزنجي .
3-    مجلة كه لاويزي نوىَ  مقال لكي يتحد الكرد والترك/ ترجمة خسروبيربال .
4-    مجلة ( ئيستا ) مقال بقلم عبدالله طاهر البرزنجي .
5-    فلم ( فصل في هكاري ).

6-    فلم الحصان .