الناقد عبدالله طاهر البرزنجي:
أعترف، أنا خجول
في حياتي اليومية وجرىء في الممارسة النقدية...
حاوره: نوزاد أحمد أسود
*ماهو تقييمك لراهن النقد
الكردي؟ هل هناك فعلا نقد أدبي كردي، اقصد مايكتب في الجرائد والمجلات الأدبية حول
النصوص الكردية، هل يمكن اعتباره نقدا بالمعنى الدقيق للممارسة النقدية الأدبية؟
-لا أستغرب حين يوجه الينا سؤال تقليدي مثل
سؤالكم هذا، انه يكرر كثيرا في لقاءاتنا وندواتنا ومهرجاناتنا الثقافية لكن اثارته
واعادته ذات صلة بحقيقة واقعنا الثقافي ومستوى مجتمعنا الفكري. إنه لحقيقة مرة أن
نتساءل في سنة (2003) وبعد الثورات المعلوماتية الهائلة والموجات الفكرية وظهور
وخفوت عشرات المذاهب والتيارات النقدية أن نقول ونتساءل هل هناك فعلا نقد أدبي
كردي؟ هذا السؤال طرح قبل عقود في ثقافة الأمم المجاورة لنا ، لكنه لا يزال يهيمن
على مساحة كبيرة من مناقشاتنا الأدبية. إن دل ذلك على شيء انما يدل على ان هناك
بونا شاسعا بين همومنا الثقافية كأمة في وسط شرقي اسلامي وبين طموحات ومستويات
الثقافة الغربية مثلا. تصور: لقد تداخلت الاجناس الادبية ونجم عنه تعامل جديد مع
النص وتثار الأن النقاشات حول موت النقد الأدبي واحلال النقد الثقافي محله – مع
تحفظي وتمسكي برأيي الخاص حول هذ الموضوع-مع ما يظهر من المبتكرات والابداعات في
المجالات العلمية والثقافية ، غير اننا مازلنا نبحث عن ايجاد واكتشاف بدايات التحقيب النقدي عندنا. هذه الظاهرة
الملموسة تشخص بوضوح عللنا الفكرية والثقافية والاجتماعية وتدل على ان بعض همومنا
لا يزال يعود الى القرون الغابرة ويثوى بين طياتها، أي ان بعض همومنا القومية
والثقافية ينتمي كهوية وتشخيص وزمن الى القرن التاسع أو الثامن أو السادس عشر في
حين زال لدى الأمم الغربية أو في كافة أرجاء العالم في أوانه.
*تريد أن تقول ان همومنا ذات سمات خاصة..
-نعم همومنا ذات سمات محلية خاصة. هناك هموم
أقلقت امم وشعوب العالم لكن عقدها انفكت مبكرا. وكأن المثقف الكردي يعيش في برزخ
وهمومه واشكالياته تنبع من حالات برزخية، يعيش في زمن العولمة والثورة المعلوماتية
الهائلة، يتعامل مع الكومبيوتر والانترنيت وفي الوقت نفسه يسعى لايجاد الحلول
لمشاكل وقضايا محلية تعود الى القرون الغابرة، فهو حداثوي وتقليدي في آن واحد،
همومه حداثوية وتقليدية، بعضها نابع من خصوصيات القرون الماضية وبعضها يتولد على
أرضية حديثة لعالم يتعولم.
أعود الى أحد شقي سؤالك الذي يخص راهن النقد
الكردي وأقول ان حاضر النقد الكردي ذو مشهد مضبب ومضطرب. هناك كتابات لاتمت الى
النقد والقراءة النقدية بصلة، أنا مؤمن بانفتاح النص واحتمالاته المشارفة على
التعدد القرائي وأومن بدور القاريء في إكثار القوة القرائية وتزويد النص بمياه
تأويلية غير محدودة، بيد ان للقراءة مناهجها وستراتيجياتها واجراءاتها ينبغي
الالمام بها. ترى كتابات نقدية جيدة غير انها تختفي بين ركامات هائلة من اوراق
تسود باسم النقد والقراءة النقدية. هناك حاضر نقدي جميل يشترك فيه قلة من النقاد
والأدباء ذوي الاطلاع على المناهج والنظريات النقدية والأدبية الحديثة ، ولو انهم
يزهدون في العطاء ، ومع ذلك تبقى عطاءاتهم علامات مميزة في النقد الكردي. وهناك
حاضر وهو الأعم والأكثر والأغلب يفتقر إلى الضبط والوضوح من الأجدى كبح جماحه بأي
وسيلة من الوسائل وأي سبيل من السبل ، وهو احكام جاهزة مسطحة بعيدة عن العقل
النقدي والنزاهة القرائية.
*ما تفسيرك لتراجع ممارسة النقد الأدبي بشكل عام
وعلى المستوى العالمي أيضا؟
-سأكون متحفظا نوعا ما أمام هذا السؤال. في الأقل
حيال ابداء رأيي تجاه تراجع أو انحسار ممارسة النقد الأدبي على المستوى العالمي
لان مشهد النقد على مستوى العالم ليس واضحا أمامنا، كما نفتقر الى الاطلاع التام
على ممارسة النقد الأدبي في كافة بلدان العالم شرقا وغربا . ومما يزيد من تحفظي هو
التقدم السريع والهائل في مجال النقد وتعدد تياراته التي تحول أشياء كثيرة دون
اطلاعنا الكافي عليها. النقد الأدبي على المستوى العالمي لا يهمل كثيرا وتبقى
ممارسته أمرا ملحا. هناك جامعات يدرس فيها النقد الأدبي وهناك صحافة هامة يمارس
فيها نوع خاص من النقد، نقاد أكاديميون يتصدون لجذب الانتباه نحو النقد ودراسة
الأدب وهناك نقاد يمارسون النقد خارج أسوار الجامعة. يبقى سؤالك مرتبطا بكتاب كبار
لهم جهودهم الباهرة في التنظير للثقافة والنقد غير ان الهموم الثقافية العامة
والاحداث الانسانية الساخنة تجرفهم وتحد من نشاطهم النقدي. أذكر لكم الناقد
الايراني الآذري رضا براهني، هذا الرجل كان يكتب الشعر والرواية وطبعت له مجلدات
ضخمة في النقد الأدبي لكنه كان يكتب اضافة الى تلك الاجناس مقالات ودراسات عن حقوق
الانسان والاستبداد والعرفان وتاريخ المذكر. في أواخر التسعينات دافع في مقال دفاعا
مستميتا عن عبدالله اوجلان وأدان سياسة القمع والابادة ضد الشعب الكردي في تركيا.
ادوارد سعيد لم يتسمر في دائرة واحدة إذ جره قلمه الى فلسطين والهجرة والاستيطان.
أدونيس مثلا يتطرق أحيانا الى هموم السياسة والتصادم الحضاري، لكن يبقى الأهم
لديهم هو الأدب والنقد. اللغوي الشهير جومسكي خرج عن دائرة تخصصه فكتب عن الكرد
والعراق وفلسطين وانتقد السياسة الامريكية
وهذا لا يعني تخلي جومسكي عن اللغة بل يعتبر ذلك حقا من حقوقه المشروعة ،
ينبغي ان يتمتع به ليبدي رأيه حول مايجري من الأحداث الانسانية.
تحتدم نقاشات اجتماعية، في التلفزيون تنظم ندوات
حول العلمنة يسطحون هذا المصطلح ويدعون فيها الى اصدار فتوى في المساجد لدعمها
والترويج لها ناسين ان وراء هذا المصطلح قرونا من الوعي والجهد التنويري وانها
مسألة فوارق في المنظومات العقلية. تزداد نسبة الضرائب، مرتبك (500) دينار يحسب لك
بالدولار فلا تدري ماذا تفعل به، الصحافة تكاد تخلو من كتابات جادة تنور افكار القارىء وتتحول الى مجموعة من الأخبار
والجمل التي يتيسر للجميع تركيبها ودمجها في مقاطع، الاعلام يدعو الى العنف،
للناقد الأدبي أن ينتقد تلك المظاهر ويكتب عنها عشرات المقالات ان أراد ذلك شريطة
، الا تبعده عن تخصصه وهمه الكتابي الأول .
النقد الأدبي في الثقافة الكردية لم يمارس بشكل
جيد ولا على نحو متواصل. ومازلنا في المراحل الأولى، في مراحل التمهيد والتأسيس
الجادين.
*كيف ترى تأثير النقد الادبي العربي على النقد
الادبي الكردي؟ هل تلمس هذا التأثير عند النقاد الكرد في كتاباتهم التطبيقية؟
-ثمة خطوط وقواسم مشتركة بين الثقافتين العربية
والكردية ، انهما تنحدران من اصول متقاربة. أفادت ثقافتنا كثيرا من الثقافة
العربية بل كانت اللغة العربية في فترات معينة وسيلة تعرفنا بها على ثقافات الشعوب
الأخرى المترجمة الى العربية. اطلعنا على بطون وأمهات الروايات العالمية ونصوص
الأجانب الأدبية وتيارات النقد العالمية القديمة والحديثة عبر اللغة العربية التي
ترجمت اليها آداب وثقافات العالم.
المثقف الكردي كان يجيد اللغة العربية قراءة
وكتابة. نحن قرأنا دستويفسكي وتولستوي ويسنين وماياكوفسكي وهنرى جيمس وجويس وجاك
لندن و د.ه.لورنس ورامبو ورولان بارت
وجاك دريدا باللغة العربية، للمترجمين العرب فضل في هذا المجال، ندين لهم بالكثير.
لانجد نصا نقديا كرديا يعود الى القرن التاسع أو الثامن عشر. الكائن النقدي عندنا
من مواليد القرن العشرين تزامن ظهوره مع ظهور حداثتنا الشعرية ، ولكن لي أن أتساءل
هنا كيف كان الشاعر الكردي القديم يتذوق الشعر و وفق أي مقياس أو معيار كان يحاور
نفسه حول المهمة الشعرية أثناء الكتابة؟ يبدو انه كان يربي نفسه الشعرية على أسس
البلاغة العربية. من هنا يظهر التأثير النقدي العربي على الشاعر الكردي وفي أوان
ظهور النقد الكردي كان الناقد الكردي يستفيد من البلاغة لتقويم النصوص.
أفاد الكرد من النقاد العرب الميالين الى
الماركسية ، غير ان افدح ضرر الحق بهم هذا الميل هو تغلب وترجيح الحس الايديولوجي.
كلنا نتذكر الكتابات التطبيقية الجميلة لفاضل ثامر، يمنى العيد، جابر عصفور، عبد
الملك مرتاض، حاتم الصكر، سعيد الغانمي، عبدالله ابراهيم ، كمال أبو ديب. محمد
مفتاح، خاصة جهودهم النقدية التي توهجت في أواخر الثمانينيات وطعمت باحدث المناهج
النقدية الحديثة. صحيح ان المناهج البنيوية وما بعد البنيوية والسيمولوجيا ونقد
استجابة القاريء ليست من بنات أفكار العرب لكننا اطلعنا من خلال اللغة العربية على
تطبيقات جميلة لها في الثقافة النقدية العربية.
*ظهر النقد الكردي-كممارسة أدبية-في أوائل النصف
الأول من القرن العشرين، هل بوسعنا القول ان لدينا تاريخا للنقد الكردي؟
-ليس لنقدنا تاريخ طويل على
غرار النقد اليوناني أو العربي. منذ مئات السنين واليونانيون ينتقدون النصوص
ويفككونها ، وبهذا راحوا يعّودون قاريء النص ومنتجه على المناقشة وتقبل الاراء
المضادة. اذن لعب النقد لدى بعض الشعوب دورا متميزا في ايجاد وتنقية الجو المنفتح
الملائم لمناقشة الآراء المتضادة.
استطيع القول ان الصحافة كانت عاملا هاما ساعد
على ظهور النقد الكردي الذي تزامن مع ميلاد الصحافة الكردية أو تلاها بسنوات. في
الصحافة عادة تعرض الكتب، وتبدى الآراء في الآعمدة الصحفية ويُلقى الضوءُ على
النشاطات الأدبية، هذه الملاحظات الصحافية تؤدي الى تنشئة وتحريك الحس النقدي. أرى
ان الصحافة الكردية لا تستثنى في هذا المجال. لا اقول ان نقدا صحافيا بالمعنى
المتعارف عليه في الغرب والمدرج ضمن المناهج النقدية المعروفة قد ظهر في الصحافة
الكردية، بل اعني ان بدايات الصحافة الكردية أثرت بشكل ايجابي على بدايات النقد
الكردي في أوائل القرن العشرين و وسعت له المجال لابراز ملامحه وخطواته الأولى.
*غياب النقد كيف تفسره وما هي السبل الكفيلة
بعلاجه؟
-النقد ليس غائبا، تاريخ النقد الكردي الذي
لايتجاوز (100) سنة عبارة عن الحضور، ما كتب في تلك السنوات يشكل حضورا للنقد
الكردي وللنقاد الكرد مهما كان نوعه وأثره، اذن المشكلة تكمن في غياب النقد الجاد.
الجدية في العمل النقدي هي الغائبة. اضافة الى كتابة الشعر والتاريخ والقصة كان
هناك أدباء وكتاب (الشيخ نوري الشيخ صالح، رفيق حلمي، علاءالدين سجادي) يكتبون في
النصف الاول من القرن المنصرم النقد ويدونون ملاحظاتهم النقدية حول النصوص الأدبية
، بيد ان جهودهم النقدية كانت تستند الى الأسس البلاغية واكتشاف بعض الصور الشعرية
من خلال الاشارة الى المشبه والمشبه به والأدوات البلاغية الأخرى ، كما كانوا
يعتنون بالجانب التاريخي والاجتماعي والمرجعيات المتعلقة بخارج النصوص. استمر
النقد الكردي على هذا المنوال ولايزال هناك نقاد يكتبون على نفس الوتيرة. اذن
النقد بهذا المفهوم البدائي ليس غائبا، يمكنني القول ان النقد الجاد هو الغائب..
*وما هي اسباب غياب النقد الجاد في الواقع الأدبي
الكردي؟
-تقف وراء هذا الغياب اسباب عديدة. ان ممارسة
النقد تحتاج الى خلق المناخات الحرة كي تفسح المجال لمناقشة الآراء المختلفة بحرية
و وئام. تشبثنا بالطابع العقلي القبلي يحول دون نشوء تلك المناخات. من جانب آخر أعزو
السبب الى عدم اطلاع الناقد الكردي على تاريخ النظريات والمناهج النقدية والتطور
الذي يطرأ عليه. هناك نقاد يكتبون بغزارة بيد انهم لا يغذون كتاباتهم بمنهج أو
مناهج، الناقد الكردي فقير في عدته وأدواته وثقافته النقدية. لتلافي العراقيل أمام
تنشيط وتعزيز النقد الكردي يجب ان نسعى لخلق الفضاء الحر لطرح الآراء المختلفة
وندجج انفسنا بثقافات ونظريات ومناهج حديثة. الحوار النقدي لايتم ولا يتكامل
بثرثرة المُرسِل فقط وصمت المتلقي.
*موقع الناقد الكردي بالنسبة الى ثالوث
(المؤلف، النص، القارىء)
-في تاريخ النظريات النقدية لعب المؤلف دورا
كبيرا ، كان هو السلطان والمهيمن. كان الناقد يشتغل على المؤلف ويبحث اثناء ممارسة
النقد عنه وعن قصده ونواياه، مقصد المؤلف أصبح هو الشغل الشاغل. كان الناقد يسعى
من أجل اكتشاف شخصية المؤلف ومقاصده وملامحه وصولا الى كشف طبع أصابعه. ظل النقد
لفترة طويلة يمارس تحت هذه المهيمنة ، الى ان جاء دور النص خصوصا منذ سطوع نجم
الشكلانيين الروس وظهور البنيوية وما بعد البنيوية. اعتقد ان القرن العشرين هو قرن
التحولات النقدية الهامة. اصبح النص هو المنطلق والمرتكز. ثم جاء دور القارىء
ليحتل موقعه في هذا الثالوث ويحل محل المؤلف لاعادة بناء النص، بمعنى آخر لم يعد
القارىء مجرد مستهلك كي يمثل دور المتلقي فقط ويستهلك المرسَل اليه على الفور بل
أصبح يعيد البناء من جديد. أظن أن نظريات التلقي أوجدت توازنا هاما بين المهيمنات
النقدية الميالة بتطرف تارة الى المؤلف وتارة الى النص، تارة الى المرجعيات
الخارجية وتارة الى داخل النص.
بالنسبة الى الناقد الكردي وتحديد موقعه من
ثلاثية (المؤلف، النص، القارىء) فانه أمر في غاية الوضوح، منذ مرحلة التأسيس
والتدوين الأولى والتي أستطيع أن أحددها زمنيا بجهود الرواد في بدايات القرن
العشرين حتى سنة 1970 ، كان الناقد الكردي يتعب نفسه وراء البحث عن المؤلف ومقاصده
ولايزال النقد الكردي يئن تحت سلطة المؤلف. في السبعينيات تطور النقد الكردي نوعا
ما، لايمكن أن نكون منصفين لو غضضنا الطرف عن التحولات النقدية في السبعينيات ،
أما التوجه نحو النص فقد بدأ الاهتمام به في أواخر الثمانينيات، النقاد الشباب
بذلوا ما في جهدهم لاضاءة النص وتفكيك عناصره الداخلية، يبدو لي أن التحول الهام
في النقد الكردي تم بفضل هذه الموجة الجديدة المتواضعة. مجموعة من النقاد الشباب
أحسوا بضرورة الدعوة الى تحديث النقد الكردي منهجا ومصطلحا. اكرر: الجهود كانت
قليلة ومتواضعة لكنها كانت نقطة انطلاق اخرى نحو آفاق التحديث النقدي. في
التسعينات تزايد الاحساس بأهمية التحديث، الأن وبعد الاطلاع الأكثر على الكتب
النقدية الأجنبية المترجمة الى اللغتين العربية والفارسية ، أصبحت في متناول
القراء ثقافة نقدية جديدة. هناك بوادر للاعتناء بالدور الملموس للقارىء وموقعه في
بناء النص وتجديده من خلال الاختلاف في القراءات،خاصة بعد سبر كنه مفاهيم نظريات
التلقي.
*لمناسبة الحديث عن التحديث النقدي كيف تنظر الى
الحداثة الكردية بشكل عام؟
-الحداثة الكردية هي الأخرى متواضعة فهي حديثة
بكل معنى الكلمة، أنجزت في مجال الادب بكافة أجناسه وخاصة الشعر ولم تقتحم
المجالات الاجتماعية والدينية والاقتصادية. لانغض الطرف عن التحديث الذي طال بعض
المؤسسات الأدارية ، وهي غربية في الأصل جاءتنا عن طريق الاستعمار أو بوسائل
الاحتكاك غير الاستعماري وذلك عن طريق وسيط. بالمناسبة أرى: ان الحداثة غربية في
الأصل و وراءها قرون من الوعي والانقلاب الفكري ، أما في الوقت الراهن فانها
لاتنحصر في الأطار الغربي. هناك حداثات وليست حداثة واحدة، حداثة اليابان، حداثة
الدول النامية، يعني أصبحت الحداثة قدرنا إذا هربنا وابتعدنا عنها نحكم على انفسنا
بالانتحار.
قلتُ الحداثة الكردية ناقصة ومتواضعة، أولا نحن
نفتقر الى مشروع حداثوي مدجج بطاقات تنظيرية لنتمكن من مراجعة خطواتنا المتعثرة .
أي بؤس هذا نكون حداثويين في الشعر ومقلدين في رؤانا الاجتماعية والفكرية الأخرى..
هناك ظروف قاهرة فرضت علينا التشظي في رؤيتنا الى الحياة الحديثة. هناك أحزاب
ومنظمات وجماعات لاتنفك ليلا ونهارا عن الدعوة الى التحديث ولكن حين تأتي الى
الممارسة تجدها في واد آخر، مثلا تتلهف وراء موجات الحداثة وحين تتناول أو تتحدث
عن الأدب تتجنب كافة ملامح الحداثة وتختار تيارا أدبيا غارقا في متاهات التقليد
والتقليدية. ولايفوتني القول ان تسعينيات القرن المنصرم علامة زمنية جميلة نوعا ما
، نوقشت فيها الحداثة على نحو آخر ومغاير للطروحات في العقود المنصرمة.
*بماذا تعزو قلة نقاد الأدب بينما يزداد عدد
الشعراء والروائيين والكتاب باستمرار؟
-ارتفاع عدد الشعراء والروائيين والكتاب ونقاد
الأدب حالة متلازمة ومشتركة وسأكون مرتاح البال لو كان الارتفاع على حساب الابداع
والجدية واضاءة النصوص.
*حدثنا عن جهودك مع النقد.
*انطلاقتي الأدبية في أوائل السبعينات كانت مع
الشعر والقصة والترجمة فكانت مساهماتي الأولى تنشر أوتبث في برنامج (في المرآة)
حين كنت في المتوسطة غير ان متابعاتي الثقافية وقراءاتي للنقد والدراسة النقدية
ساقتني في أواسط السبعينيات الى النقد والممارسة النقدية. أتصور ان الموجة النقدية
في السبعينات قد خطت عدة خطوات وانتشلت نفسها من ظلال الجهود البدائية التي ظهرت
مع ظهور ونمو الصحافة الكردية في مطالع القرن العشرين المتوغلة في شعاب البلاغة
وأسسها والبحث في النص عن تاريخ حياة وسيرة المؤلف ، بيد انها لم يتسن لها التحرر
من سلطة الايديولوجيا التي كادت تطغى على الرؤى النقدية والأدبية. كانت الافكار
الماركسية والقومية تتحكم في البنية النقدية، على سبيل المثال مال نقادنا نحو الأفادة
من كلاسيكيات النقد الروسي والنزعة الايديولوجية اليسارية الاشتراكية بدلا من
اكتشاف باختين والناقد الماركسي البريطاني تيري اكلتون، ومع ذلك استطاع القلائل من
النقاد التوقف عند الجوانب الفنية. في تلك الفترة أحسست ان البحث عن الشكل وأدبية
النص يهمل أثناء التعامل مع النص فوجدتني أنجذب في ذائفتي النقدية نحو الشكل. وكان
لكتاب رولان بارت (درجة الصفر للكتابة) المترجم والمطبوع في سوريا في السبعينيات ،
ودراسة جميلة ومفصلة لهاشم صالح حول كتاب (بنية اللغة الشعرية) لجان كوهين
المنشورة في مجلة المعرفة السورية وكتابات يوسف اليوسف وكتاب جدلية الخفاء والتجلي
لكمال أبو ديب المطبوع في (1979) ودراسات اخرى أهمية بالغة في تغيير رؤيتي النقدية
وفي سنة 1978 كتبت مقالا حول يشار كمال أثنى عليه أساتذتي في النقد، ودراسة عن
بنية الرباعيات في شعر كامران اشتهيت فيهما البحث عن التشكيل. من جان كوهين تعلمت
الانسياق وراء الانزياحات والانحرافات واعتبارها معايير للشعرية. ومن الشكلانيين
الروس تعلمت العزف على الشكل.
*احيانا يقال بين الأصدقاء ان عبدالله طاهر يتمكن
من طرح الآراء لكنه يكبحها بدافع التحفظ.
-أعزائي في الوسط الأدبي يقولون لي ذلك بصراحة
تامة ويشجعونني لأكون قاسيا مع النصوص، وأنا أقول لهم بدوري: راجعوا كتاباتي
النقدية ستجدون انسانا صريحا مع النصوص وأصحابها، له لغة هادئة هادفة بعيدة عن
التجريح الشائع بيننا، الجرأة النقدية في رأيي تكمن في الاجراء النقدي وتطبيق
المناهج أو استثمارها وتفكيك النصوص بغية الوصول من المبنى الى تعدد المعاني. ألمس
عنفا شديدا في لغتنا النقدية والصحافية. سأعترف لك: أنا خجول في حياتي اليومية
وخجلي هذا نابع من تواضعي لكنني جرىء مع النص وفي الممارسة النقدية.
عن فصلية سردم العربي، دار سردم للنشر ،كردستان
العراق، السليمانية ،العدد الأول 2003 م .
الحداثة وما بعدها وقضايا أدبية وفكرية أخرى
في حوار مع الكاتب والناقد
الكردي عبدالله طاهر برزنجي
حاوره: فريدون محمد صالح
* لنتطرق الى النقد أولا، هناك أسئلة حول هذا
الموضوع، كيف تقيم حضور النقد في الثقافه الكردية؟
- الحديث عن حضور النقد يجرني الى الحديث عن غيابه، كلما سمعنا شيئا
مرتبطا بالحضور يفرض سؤال الغياب نفسه، لأنه يشكل أكبر مساحة من همومنا الثقافية،
لم تتبلور ولم تتشكل في أي عقد من العقود الثقافية الكردية جهود نقدية ذات رؤوى
واضحة ومعالم يدعمها وعي نقدي مدجج بالمناهج . لم تشكل في فترة الرواد أو في
السبعينيات ولا في أي فترة أخرى منظومات نقدية تتصدى لدراسة نصوص و أصوات فترة
بكاملها، هناك عشوائية في دراسة الجهود الأدبية . الانتقائية هي المهيمنة على
محاولات النقاد . لم يظهر ناقد قدير يصنف على نحو نقدي أدب الفترات والعقود حتى
يفيد منه الأجيال والقراء. هناك من ينتقي نصاً من نصوص العشرينيات وفقا لمزاجه، يترك مجمل نصوص رائد مثل عبدالله كوران ويأتي
ليدرس نصا لمن هو أدنى منه ومن مجايليه.
*ما
هي العلاقة بين النقد والابداع؟ أيهما يمهد الطريق للآخر؟
-انهما
شيئان متلازمان . الابداع يحرك النقد، والنقد يرفد الإبداع بالحيوية والتواصل .
النص الإبداعي الجميل ينشط النقد ويفعله . بدون النقد لا ينمو الحوار . في نظر
نظرية التلقي أو في نظر نقاد استجابة القارىء ، لا ينبض النص الأدبي إلا في الوقت
الذي يلمسه القارىء ويهم بفتحه وقراءته.
*
ما هي العلاقة بين الواقع اللغوي والنقد؟ بالأحرى: ماهي العلاقة بين الالسنية
والنقد؟
- أُعيد الاعتبار الهام للغة في الفلسفة والأدب
والنقد.. لم تعد اللغة اليوم مجرد وعاء أو مجرد وسيلة للتوصيل. الدراسات اللغوية
الحديثة زودت النقد بمياه جديدة، لقد أصبحت الالسنية تيارا متميزا في الدراسات
الحديثة ، درس به العديد من النصوص الأدبية الهامة لكتاب العالم.
*بصفتك
مترجما أيضا ، ما هي انطباعك حول هذه المهمة الثقافية الكبيرة؟ هل تعتقد اننا
صنعنا شيئا في هذا المجال؟ هل لديك مقترح أو مشروع أو رؤى لتفعيل الترجمة؟
- إنطباعاتي هي:الترجمة فن حديث في ثقافتنا لم
تخلق جسرا لإيصال ما لدى العالم لينا . حقا انها مهمة ثقافية كبيرة للتعرف على
ثقافات وحضارات العالم . لَمْ ننجز شيئا
هاماً في هذا المجال لأسباب، منها: تأريخها غير طويل في خلفياتنا الثقافية، ثانيا
عدم وجود مترجمين ذوي أنفاس طويلة، ثالثا غياب منهج لدى المترجم . إضافة إلى ذلك ننظر بعين الإستصغار الى فن الترجمة . شخصيا
لدىَّ مشاريع في الترجمة أتمنى أن تقل مشاكل الحياة و روتين العمل لأتفرغ لها. وفي
جعبتي مقترحات كثيرة لا تعد ولا تحصى بصدد الترجمة، أتمنى أبضا أن تزول العقبات أمام
المترجمين المخلصين ممن تتوفر فيهم القدرة والصدق والكفاءة.
* كيف تنظر الى الادب الكردي المكتوب بلغات أخرى؟
هل تستطيع ان تصنف النتاجات الادبية ل (سليم بركات، محمد أوزون الذي يكتب
بالسويدية، يشار كمال الذي يكتب بالفرنسية) والذين يكتبون باللغة الفارسية أو حتى
يترجمون اليها لغات اخرى (غير كردية أيضا)، هل يمكن تصنيفها ضمن الأدب الكردي؟
-
هذه مسألة قيل عنها الكثير، ولكن هناك بون شاسع بين الآراء المطروحة حولها قبل
خمسين عاما والآراء المستجدة التي تطرح حولها الآن. العولمة ، تقارب الشعوب،
الهجرة، الفرانكوفونية وقضايا أخرى غيرتْ من رؤى الكثير حول الكتاب الذين يكتبون
بغير اللغة الأم، والكتاب ذوي اللغة المزدوجة . ما الضرر في أن أعيش في اوروبا
واكتب عن عمومي وأحاسيسي الكردية بالالمانية أو الفرنسية أو الاسبانية ؟ أنا مثلا
أكتب باللغة الكردية وبالعربية أيضا.. ثم لماذا نقيد هموم وأحلام وطاقات المبدعين؟
علينا
أن نطرح هذا السؤال: فلان كاتب كردي لكنه يكتب بالفارسية أو الالمانية، لا بأس في
ذلك، ولكن من أي منظور يكتب ويخاطب القاريء الفارسي أو الالماني؟ هل يخاطبه من
منظور فارسي/ فارسي و الماني/الماني أم يخاطبه ككردي له همومه ومشاكله ومقاصده
وتاريخه ومستقبله؟ سليم بركات كردي يكتب باللغة العربية ولكن كيف يكتب؟ هل يخاطب
القاريء العربي عبر اللغة العربية ككردي له خلفية ثقافية واجتماعية كردية؟ في الحالة
هذه ينبغي أن نشيد بابداعه.
أما
حالة يشار كمال فهي مختلفة عن حالة سليم بركات . أنا أعتز بأدب يشار كمال، لكنه يتحدث عن واقع فلاحي في
كافة أرجاء تركيا ، ولا يتناول بشكل خاص واقعا كرديا محضا. سليم بركات ويشار كمال
نموذجان لحالتين مختلفتين، حين أقرأ سليما أتلقى أدبا مليئا برموز كردية اجتماعية
وتأريخية ونفسية . ماذا نقول في حالة كهذا، في نموذج بركاتي مشرق؟
* هناك يربط الحداثة بالأزمنة القديمة ويجد في
مقاطعها الزمنية المتفاوتة حداثات عديدة، وهناك آخرون يتراءى لهم ان قضايا الحداثة
والحداثية هي وليدة شروط وظروف تأريخية وموضوعية خاصة بالأزمنة الحديثة، اين تقف أنت
بين هاتين الأطروحتين؟
- هناك من يرى ان لكل زمن حداثته، ولا يدخل كل
قديم في خانة القديم ، وكل حديث كتب في الأزمنة الحديثة في خانة الحداثة. هناك
نقاد وكتاب يرفضون أن يكون كل نص كتب في القرن العشرين ، مثلا ، حديثا، وما كتب في
العصرالجاهلي أو العباسي كله قديما لأنه كتب في العصور والأزمنة القديمة..
وهناك
من يرى عكس هذا التيار ويحدد للحداثة زمنها الخاص بالعالم والشهر واليوم . بيد ان
الغرب هو مسقط رأس الحداثة في نظري . ولا أقصد بهذا القول أن أميل الى الغربنة، أي
أن أجعل من الحداثة الغربية نموذجا أثيراً ونهائياً لتحديث ما لدينا . الحداثة
الغربية كانت النموذج المركزي في بدايات نشوء الحداثة، غير ان الحداثة تعددت بعد
عقود. الآن توجد حداثات تشترك فيها الأطراف والمهمشون. ولكن أن نأتي ونقول انها
نشأت لدينا قبل عدة قرون ونستشهد بجوانب مشرقة لنص أو عدة نصوص، هذا رأي لا أتفق
مع قائله . صحيح هناك تجليات حديثة في بعض الآداب الشرقية القديمة ، حديثة وجديدة جاءت على اثر المغايرة مع القديم، وهذا شيء يحدث
في العصور كلها . أضرب لك مثلا ربما ذكرته في مقابلات تلفزيونية أيضا ، يُعتبر
الشاعر (ابونواس) حديثا في عصره بهذا المعنى الذي أسلفنا اليه، لأنه تمرد على
المقدمة الطللية التي كان الشعراء قبله يستهلون بها قصائدهم ، ونقل الشعر من عالم الصحراء والبكاء على الأطلال الى
المدينة وأجوائها الحافلة بمجالس الشرب وليالي الأندية وفضاءات مدينية مفتوحة . أبو
نواس حديث بهذا المعنى، يتجلى في نصوصه نوع من الحديث والمعاصر ولكن ليس بالشكل
الذي نلمسه في حداثة الغرب وحتى في حداثة الآداب الشرقية الاخرى. نحن نخلط الاوراق
حين نتحدث عن الحداثة بمفهومها الغربي وولادتها وأسسها الفكرية وثمراتها وبياناتها
المتعددة وتأريخ ميلادها وأعلامها وأقطابها.
*
اين تكمن الحداثة عادة في تجلياتها الاولى؟ هل تكمن في الفكر أم في التطبيق؟
* للحداثة منظورها وفلاسفتها ومفكروها ورجالها،
ضحوا بتنظيراتهم من أجلها. كان المجتمع
الغربي تقليديا قبل ظهور أفكارهم الحديثة . ثمار الحداثة وممارستها التي شملت كافة
مرافق الحياة لم تأت من الفراغ الفكري.
* الحداثة ومحاولات التحديث في العراق وفي
كردستان العراق إن كانت موجودة ، متى وأين وفي أي من الحقول الثقافية والأنسانية
بدأت انطلاقاتها؟ هل تجسدت ملامح الحداثة العراقية في تجلياتها الاولى في حقل الأدب
أم في السياسة أم في الحقول الأخرى؟
- القوى المستعمرة جلبت معها ثمار الفكر الحديث .
هذا النقطة يجب أن تثار أثناء البحث عن كيفية وصولها إلينا. لاشك في انها حملت
بذور الحداثة بأهداف واغراض إستعمارية
وليست بأهداف انسانية ، ومع ذلك فإنها اصبحت نواة للتحديث في الإدارة والحكم
والهيكل الإداري والتعليم الحديث.
بالنسبة
للشعب الكردي لَمْ تصله الحداثة حتى ولو كانت بشكل مبسط- من خلال احتكاكه الطبيعي
المباشر بالغرب. لو بحثنا عن فكرة اكتشاف
الغرب والحداثة فينبغي أن نبحث عنها في مكان آخر، عبر وسيط . لقد اكتشفت الانطمة
التركية الغرب قبل القرن العشرين واحتكت به، شمل ذلك الاكتشاف أشياء كثيرة من
ضمنها الأدب .فاذا أردنا البحث عن جذور
وبدايات الحداثة عندنا ، فينبغي أن نلتفت الى هذه النقطة..
يذهب
الشاعر العربي ادونيس الى ان الحداثة العربية حداثة شعرية ، فتعرض الى انتقادات
كثيرة، لكنني أرى في رأيه ضرباً من الصحة والصواب.
في
الثقافة العربية ظهرت رجات حداثوية لكنها انطلقت من الشعر . انظر الى الجهود
الحديثة لبدر شاكر السياب ونازك وقبلهما باكثير ولويس عوض وخليل مطران وجبران خليل جبران أمين ريحاني..الخ وقس على رأي ادونيس شعرية الحداثة الكردية .
انظر الى عبدالله كوران وشيخ نوري شيخ
صالح وآخرين . لقد أثرنا المسائل الحداثوية في الشعر وغضضنا الطرف عن مجالات عديدة
أخرى . وهذا كان نقصا لأن الحداثة مشروع شامل يطال كافة جوانب الحياة.
*إن
التعاريف السائدة والمبسطة للحداثة تنص على ان كل إنقطاع معرفي هو حداثة. هل ترى
في ( ما بعد الحداثة) انقطاعا معرفيا؟ أو هل ترى أي انقطاع معرفي في عودة (ما بعدة
الحداثة) الى ما تركته الحداثة وراءها؟
-
الحداثة أعلنت انقطاعها ودعت الى البدء من أرضية جديدة . وهي من أهم الاشكالات
التي واجهت الحداثة ، وهو أي الانقطاع التام عن الماضي ، بمثابة وهم كما يرى
ادونيس ، والعيش في دائرة الماضي وعدم الانفتاح على الحاضر والمستقبل هو الأخر وهم
. ما بعد الحداثة تنفتح حتى على الماضي والمحلي والثقافات والحضارات المهمشة . أقطاب
ما بعد الحداثة وقفوا كثيرا عند هذه النقطة واولوها أهمية . نظروا اليها نظرة
انتقادية واعادوا الاعتبار للكثير من ثقافات الأطراف، بل غالوا كثيرا في تضخيم
المهمش وجعلو منه شيئا يكاد يكون مقدساً, إن تأليه أي شيء، سواء أكان مركزا أو
هامشا يُحسب له حساب واحد في نهاية المطاف.
عن جريدة (راية الحرية ) العدد ،18 ،الإثنين
،2-5-2000